يتذكر الجميع مشهد الشقي الذي جلس يتأمل القذائف على «غرب بيروت»، محاولاً كسب ودّ الفتاة إلى جانبه وهو يقول لها: «بيروت، بيري كرايزي»
رنا حايك
لا بدّ لمن شاهد فيلم «وست بيروت» للمخرج زياد دويري أن يتذكّر عمر، ابن العائلة البيروتية المتواضعة، الذي درّبه انتماؤه الطبقي والشارع الذي يألف التعامل مع شراسته على اتباع سلوكية مناسبة لمواجهة دوامة حرب ما زالت في بداياتها.
يحسن عمر تصريف أموره وأمور صديقه طارق وحبيبته ماي مع عناصر الميليشيا المرابطين على متاريس بيروت، ويزور «أم وليد»، القوادة التي تدير منزلاً للدعارة على خطوط التماس، يحادثها بأريحية تذهلها، يكاد يضحكها كما يضحك مئات المتفرجين لفرط الواقعية في أدائه.
استمتع المشاهدون كثيراً بأداء الممثل محمد شمص العفوي لشخصية عمر. أضحكتهم خفة دمه وجذبهم صدق الأداء. نكاته لا تنتهي، إذ تمتزج دائماً بالجد، وتمثّل جزءاً أساسياً من شخصيته ومن تعاطيه مع الحياة. سرعان ما تدرك، وأنت تحادثه، اختفاء الحدود القاطعة بين الواقع والتمثيل.
قصة حياة محمد تقول الكثير عن شخصيته، فهي عبارة عن مجموعة من الصدف حكمها مسار عبثي فخلقت شخصية عبثية بالمعنى المسرحي للكلمة. عبث ينطلق من أكثر التجارب إيلاماً، ليتّخذ من السخرية والنكتة سلاحاً لمحاربة الواقع القاسي.
ظهر شمص بعدما كان الجميع متأكداً من مماته خلال الحرب، أودع مؤسسة دار الأيتام ولم يتعرّف إلى ذويه إلا بعد خروجه من المؤسسة عام 1998. كان يهرب من الصف ويلتحق بالمجموعات التي تتدرب على الرقص أو المسرح. وعندما زار المخرج زياد الدويري المؤسسة، أحب ديناميكيته وروحه المرحة، وسأله ماذا يريد أن يجلب له من فرنسا فأجابه: «منقوشة».
بحث عن والده بعد تخرّجه من دار الأيتام وعاش معه، عمل كهربائياً ولم يتحدّث مع أبيه حتى هذه اللحظة عن الماضي: «لا أحب أن أستعيد المحطات المؤلمة في حياتي، ولا أن أتكلم عنها. أكره البكاء، مهما كان الألم يمزقني، لكن أبكي أحياناً عندما أكون وحدي وأتذكر أمي».
يبدو غياب الأم غصة في حلقه. قالوا له سافرت إلى أفريقيا، ثم عرف أنها في فلسطين، تكلم معها مرات عدة على الهاتف، إلى أن أمّن له برنامج طوني خليفة، «الفرصة»، لقاءها خلال رمضان الماضي.
مثّل بعد «وست بيروت» في فيلم «بلايند فلايت» الذي يتناول قصة اختطاف صحافيين بريطانيين في بيروت خلال فترة الحرب الأهلية. شعر بأن أداءه تحسّن لكن الجمهور اللبناني لم يتسنّ له مشاهدة الفيلم الذي منع عرضه في لبنان. تلك كانت مشاركته الأخيرة، ومنذ حينها يمثل شمص لجمهور أوسع، يشمل أهالي الحي حيث يسكن في برج البراجنة وأطفال الـ«كي. أف. سي» والمسنين الذين يرتادون كورنيش المنارة.
لم يعد يذهب إلى تجارب الأداء، لأن المشاركة فيها مكلفة (يدفع المشترك بدلاً يصل أحياناً لـ20 دولاراً). ولأنه يئس من المحسوبيات والوساطات في مجال التمثيل، يكتفي بالاندساس في مواقع التصوير أحياناً فقط ليستعيد الحالة، يراقب أداء الممثلين ويستاء من مستوى الكثيرين منهم في الدراما اللبنانية.
لا أثر للمرارة في حديث شمص. فالتمثيل ليس مهنة بالنسبة إليه، هو متعة، ووسيلة تواصل مع الآخر يمارسها ليستمتع وليمتع من حوله.
يصالح المتخاصمين في الحي ولا يبتعد إلا بعد أن يتصالحوا، يحيي أعياد ميلاد أبنائهم الذين يتحلقون حول «ستي الختيارة» للاستماع إلى قصصها. يدّعي أنه أخرس أمام البائع في الدكان، فقط ليستمتع بردة فعله وهو يحييه في النهاية. يقلد البهلوان في المطاعم ليضحك الأطفال ويرفض عرض المدير بأن يعمل لديه مؤدياً لتلك الفقرة، لأنها «لو أصبحت عملاً روتينياً فستكون مملة».
يلهو محمد شمص بالحياة، يمارس موهبة لم تصقل في المعاهد والجامعات فحافظت على صدقها وبريق بدائيتها، فتتداخل مع الحياة وتصبح جزءاً منها. يستمتع بما يفعله ويفعله بأريحية، فلمَ لا تلتفت إليه الكاميرات؟