يتهافت سكان البلدان النامية على اتباع نموذج الاستهلاك السائد في البلدان الغنية. إلا أن التمثل بهذه الدول من هذه الناحية قد يفضي إلى استنزاف الموارد الطبيعية في الكوكب، وانهيار المنظومة البيئية الكاملة على الأرض
إعداد: رنا حايك
لطالما عُدّ النمو السّكاني أحد أهم الأسباب المحتملة لانهيار النظام البيئي في العالم. ويعزو الكثير من الاقتصاديين الليبراليين أسباب أزمة الغذاء العالمية إلى ارتفاع عدد السكان في البلدان الفقيرة. إلا أن الرّهان الفعلي الذي يواجه قدرة الأرض على إعالة سكانها لا يكمن في تسارع النمو السكاني، بل في المعدّل الذي يستهلك به السكان الموارد الطبيعية والمعدّل الذي ينتجون به النفايات.
إن معدلات استهلاك الموارد الطبيعية، كالغذاء والزيوت والحديد وإنتاج المخلّفات، كالبلاستيك غازات المسببة للاحتباس الحراري في البلدان المتقدمة، تفوق بحوالى 32 مرة تلك المسجلة في البلدان النامية. يعني ذلك أن مليار شخص يعيشون في البلدان المتقدمة، يستهلكون من الموارد الطبيعية ما قد يستهلكه 32 مليار شخص يعيشون في البلدان النامية، رغم أنه لا يعيش في تلك البلدان سوى 5.5 مليارات شخص.
هناك علاقة مشابهة لهذه على صعيد كل بلد بين الأغنياء الذين يستهلكون أضعاف ما يستهلكه الفقراء، فيبدّدون الموارد ويهدرون الغذاء.
في لبنان مثلاً، تحتوي نفاياتنا الصلبة على مكوّنات عضوية كثيرة، تشير إلى كمية الغذاء التي نهدرها. وذلك بالرغم من ارتفاع أسعار الغذاء وتكاليف المعيشة. الطعام الوفير الذي يخلّفه وراءهم رواد المطاعم الشرقية ويرمى هو دليل إضافي على هدرنا للطعام. يعي الفقراء هذا الفارق في الاستهلاك، ويولّد لديهم سخطاً يترجم فعلياً بالتظاهرات والدعوة إلى العصيان.
فبدل معالجة الموضوع عن طريق اقتراح سياسات إعادة توزيع الثروات والتنمية الاجتماعية، يعد الأغنياء الفقراء بأنهم سيستمتعون بأسلوب حياة رغيد كالذي يتبعونه هم إذا ما جدّوا في العمل، متّبعين بذلك الأسلوب ذاته الذي تتبعه الدول الغنية حين تعد تلك الفقيرة بأنها ستحظى باستهلاك من «الدرجة الأولى» عالمياً إذا اعتمدت السياسات «الجيدة» كالديموقراطية وتحرير الأسواق.
هذا حلم مستحيل: فالمال والغذاء والموارد عامةً لن تكفي لكل سكان العالم إذا ما حققوا جميعاً معدلات الاستهلاك ذاتها التي يسجّلها سكان البلدان الغنية.
اليوم، حتى البلدان الغنية ذاتها تلاقي صعوبات في محافظتها على مستويات الاستهلاك فيها، لأن الموارد شحّت عامةً، ولم تعد تسدّ الطلب رغم القدرة الشرائية المرتفعة لسكانها: فالعالم يشهد أخيراً ارتفاعاً شديداً في أسعار السلع والموارد، يقابله انهيار في أسواق المال.
كل ذلك فيما تتحضر الهند والصين للانضمام إلى حلقة البلدان المتقدمة من حيث مستويات الاستهلاك، مما سيزيد معدل الطلب على الموارد العالمية بنسبة ثلاثة أضعاف، ما يفسّر الارتفاع الهائل لأسعار الوقود، والفولاذ والغذاء.
إن مطالبة البلدان النامية الحفاظ على معدلات استهلاك منخفضة، فيما تتابع البلدان الغنية مغالاتها في الاستهلاك، مهمة مستحيلة، رغم ذلك، لا يزال يتصدر توصيات المؤتمرين حول العالم، وخاصة في ما يتعلق بالمؤتمرات عن التبدل المناخي والتجارة العالمية.
ولكن، من الواضح أن الطريقة الأمثل هي محاولة تحقيق المساواة حول العالم في مجال معدلات الاستهلاك ومستوى المعيشة بين البلدان، كما بين المواطنين في بلد واحد.
تفيد التجارب بأنه من الممكن خفض معدلات الاستهلاك إلى النصف من دون المساس بالمستوى المعيشي. مثلاً، يستهلك الفرد في أوروبا الغربية نصف كمية الوقود التي يستهلكها الفرد في الولايات المتحدة، رغم أن المستوى المعيشي في أوروبا الغربية أعلى، بما فيه متوسّط العمر المتوقع، مؤشرات الصّحة، معدل وفيات الأطفال، إمكان الحصول على الطبابة، الأمان المادي بعد التقاعد، الإجازات، جودة المدارس العامة ودعم الفنون. فالمؤشرات جميعها تدلّ على هدر كميات كبيرة من الطاقة والموارد المستهلكة، وعلى رأسها الغذاء، لتحقيق تقدّم في مستوى المعيشة يفضي إلى نتائج سلبية على البيئة والبشر، فاستهلاك المزيد من الطاقة يؤدي إلى ارتفاع مستويات التلوث، والمبالغة في استهلاك الطعام يؤدي حتماً إلى الإصابة بالبدانة وبالأمراض المتعلقة بها.
من الممكن إجراء مقارنة شبيهة في لبنان: حيث من الممكن تحقيق مستوى معيشي أفضل لو أعيد توزيع الثروة من خلال نظام ضريبي عادل.
من الممكن طبعاً أن يحتجّ الأغنياء وأن يعلنوا رفضهم التضحية براحتهم من أجل باقي المواطنين. لكن عليهم أن يدركوا أن هذه هي الطريقة الوحيدة للخروج من الأزمة، وأن الاستهلاك المبذّر لا يؤدّي إلا إلى جعل العالم مكاناً خطراً وعنيفاً للجميع، أغنياء وفقراء.