بعد 30 عاماً من الحفريات الأثرية التي قامت بها البعثة الفرنسية، لم تعد حياة المزارعين في عكار ومنازلهم وتجارتهم والحروب التي عاشوها سرّية، وهي اليوم تساعد في كتابة تاريخ الوطن
جوان فرشخ بجالي
كيف كانت الحياة في سهل عكار قبل 4200 سنة؟ ذلك هو السؤال الذي عملت البعثة الفرنسية على الإجابة عنه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وذلك عبر التنقيبات الأثرية التي تقوم بها في الجهة الشمالية ـــ الغربية من التل. فالمارّ في سيارته على أوتوستراد حلبا يرى «الانخساف» في جهة التلّ، حيث عُثر على خزّان مياه يعود إلى الفترة الصليبية، وعلى أساسات هلنستية وقرية من العصر البرونزي ارتكز عمل البعثة عليها. إذ تحوي بيوت تلك القرية، التي يتفاوت تاريخها بين 3200ـــ1200 قبل الميلاد، أسرار سكان عكار الذين كانوا منذ ذلك الوقت من المزارعين.
يشرح البروفسور جان ـــ بول تالمان، المدرّس في جامعة السوربون في فرنسا ومدير التنقيبات في تل عرقا منذ 1978، أن البعثة عادت هذه السنة إلى عملها بعد توقف دام سنتين بسبب الأوضاع الأمنية المتردية بعد حرب تموز 2006، مما دفعها إلى التمديد حتى أيلول.
تجدر الإشارة إلى أن التنقيبات التي يقوم بها فريق علمي فرنسي مؤلف من 6 طلاب علم آثار، طالت هذه السنة مستويات هامّة جداً وغير معروفة بعد في فترة معينة من العصر البرونزي القديم (2000ـــ2400) أطلق عليها اسم «المستوى 18»، وهي المرة الأولى التي يُنقّب فيها علمياً في لبنان.
ويقول البروفسور تالمان إن «كلّ قطعة آثار سنكتشفها ستكون بمثابة تأريخ لأي قطعة مشابهة كان قد عثر عليها في أي من المواقع الأخرى التي لم تُنقّب علمياً. أي إن حفريات عرقا ستصبح المرجع العلمي لكلّ الشاطئ اللبناني، وقد تُستخدم لإعادة تأريخ موقع جبيل الأثري على أثر الدراسات الجديدة».
ولا تقتصر أهمية تل عرقا على هذا الاكتشاف، بل تضاف إليه المحافظة في الموقع على أكبر حائط للحقبات التاريخية في الشرق الأوسط. فالحائط الذي يبرز تنقيبات الفريق على مدى الثلاثين سنة الماضية، يمتد على طول 15 متراً وبعلو يصل إلى أربعة أمتار، حتى يكاد يكون كتاب تاريخ الموقع. فآثار كل حقبة واضحة للعيان، وتظهر التداخلات والدمار وإعادة الإعمار. وكان الفريق العلمي قد استخرج من هذا الحائط أكثر من 42 عيّنة دُرست بالكاربون (14 C14) لتحديد تاريخ كل حقبة، ما يسمح بإعادة تكوين تاريخ عرقا تقريباً بكل تفاصيله. وتجدر الإشارة إلى أن البعثة الفرنسية، وبدعم مادي من جواد عدره والمديرية العامة للآثار، كانت قد بنت جداراً من الإسمنت عزلت فيه الجدار التاريخي عن المياه والشمس وحمته من التآكل، وحافظت على واجهته عبر تحويلها إلى نافذة زجاجية كبيرة.
وكانت البعثة عثرت في القرية على مستويات من الدمار خلّفتها الحروب وحركات الاجتياح. لكن اللافت، كما يقول تالمان «أن إعادة الإعمار تلت الدمار مباشرة. وكأنما كان الناس يتركون بيوتهم ويلجأون إلى الجبال القريبة، يراقبون مجرى الحرب، وما إن تخمد النيران حتى يعودوا ليسطّحوا الأرض ويعيدوا بناء البيوت بالشكل الهندسي نفسه، وكأنّ شيئاً لم يحدث». وأحد أهم اكتشافات البعثة كان منزلاً مؤلفاً من ثلاث طبقات مبنية من الطين، وسقفه مصنوع من خشب الأرز، أُعيد بناؤه أكثر من ثلاث مرات في المكان نفسه والشكل نفسه.
وبالنسبة لعمل البعثة على الموقع يقول تالمان إن دراسة الفترة البرونزية «شارفت على الانتهاء، وسيُعمل في السنين المقبلة على تحديد أهمية أعلى التل في الفترات البيزنطية والرومانية، وخصوصاً أن عرقا أعطت للإمبرطورية الرومانية إمبراطوراً هو إسكندر سيفيروس الذي حكم ما بين 222 و235». ويقول تالمان إن الآثار الرومانية منتشرة بكثرة في أسفل التل، وكانت البعثة قد قامت في ثمانينيات القرن الماضي بحفريات إنقاذ لقسم منها كان مهدّداً بالجرف حينما كانت أعمال توسيع الطريق الدولي جارية.
وإن كانت عرقا قد أعطت لتاريخ لبنان معطيات هامة جداً عن تطوّر الحياة في الأرياف، فحفريات الفترات الرومانية والبيزنطية ستحلّ لغز من سكن هذه المنطقة في الفترة الممتدة من نهاية العصر البيزنطي حتى وصول الصليبيين. إذ معروف أن «قرية عرقا» صمدت خمس سنين في وجه الجيوش الصليبية، ولكن يبقى مجهولاً كيف ومن سكنها ودافع عنها؟ ألغاز تأتي الإجابة عنها في السنين المقبلة.


تاريخ عكار يجب أن يعرض فيها

مركز دراسات أثرية، صالة عرض للمكتشفات الأثرية في تل عرقا، موقع مؤهل للزيارة السياحية والتربوية: هذا هو المشروع الذي ينوي البروفسور جان ـــ بول تالمان أن يتفرّغ له حينما يحال على التقاعد من منصبه كمدرّس في الجامعة بعد سنتين. وقد قرّر منذ الآن المجيء حينها إلى عرقا والإقامة هناك للدفع بعجلة إنشاء «مركز الدراسات وصالة العرض» الذي يتمنى أن يُبنى في أسفل التل.
مركز سيكون الأوّل من نوعه في لبنان، فتلك ستكون أول حفرية علمية تتحوّل بعد انتهاء الحفريات فيها إلى مركز سياحي ـــ تعليمي بمقاسات عالمية. فتالمان يأمل مثلاً أن يتوسط صالة العرض مجسم للبيت الذي يرتفع إلى ثلاث طبقات الذي كانت البعثة قد اكتشفته ونقبته خلال عملها، والذي يختصر تاريخ العائلات التي عاشت في عرقا قبل 4200 سنة. ويؤكد تالمان «أن المعلومات العلمية المتوافرة لدينا تسمح لنا بإعادة بناء المنزل بالمواد نفسها التي استعملت وفق المخطط الهندسي نفسه، وسنضع في داخله كلّ القطع الفخارية التي كنا قد عثرنا عليها في مكانها. وهذا ما سيسمح بطرح المعلومات العلمية مبسّطة للزائر الذي سيرى تفاصيل الحياة اليومية في عكار قبل آلاف السنين ويفهمها». هذا بالإضافة إلى أن أجمل القطع الأثرية المكتشفة على التل الأثري ستُعرض في قاعات متفرقة من المركز، وتشرح هذه الفخاريات من ناحية التبادل التجاري الذي كان قائماً في تلك الفترة، ومن ناحية ثانية استعمال الأواني للحياة اليومية.
والمركز العلمي سيكون منظماً بشكل يسمح باستقبال طلاب المدارس، ويشرح علم الآثار والمكتشفات بشكل علمي مبسط. وبذلك، سيصبح المركز الأول من نوعه في لبنان الذي هو بأمسّ الحاجة إليه. فأرضه تعجّ بالآثار التي لا يعرف الشعب أهميتها التاريخية، بل يرى فيها مردوداً مادياً بعد نهبه. ولكن إنشاء مركز مماثل والعمل مع الطلاب سيكونان الخطوة الأولى لتغيير هذا الواقع.
والجدير بالذكر أن البروفسور تالمان قد أجرى دراسات أولية عن كلفة المشروع مع تأهيل الموقع الأثري التي لا تتخطى 600 ألف دولار أميركي لا يستطع هو أن يؤمنها من بعثته العلمية، بل يجب أن تأتي من قلب الوطن، عبر مؤسساته أو محبي الآثار. وهذا ما يدفع بتالمان للبحث عن طرق تضمن من ناحية أولى التمويل ومن ناحية أخرى استمرارية العمل في المركز. فهو يعرف أن المديرية العامة للآثار، وككلّ القطاعات العامة، تعاني صعوبة في التوظيف، لذا يحوّل نظره باتجاه المجالس البلدية التي تتوزع حولها والتي تستطيع أن تدفع رواتب الأشخاص الثلاثة الﺫين يحتاج إليهم المركز للاستمرار. مركز لو أُنشئ لكان حجر الأساس في تطوير عكار ووضعها على الخريطة السياحية للوطن.