سعد اللّه مزرعاني *من عناوين استمرار الأزمة اللبنانية، أنّ النقاش بشأنها لم يتناول، إلا في النادر من الحالات، أسبابها العميقة والحقيقية. ولقد أدى ذلك إلى جعل هذه الأزمة تتفاقم على النحو الذي شهدناه منذ الاستقلال إلى اليوم. وما شهدناه كان عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الاضطرابات والحروب الأهلية والأزمات المتنوعة وعدم الاستقرار الدائم. وتؤكّد التباينات الكبيرة التي ما زالت تتسم بها مواقف فريقي الأزمة السياسية، أن «اتفاق الدوحة» لم يتجاوز حدود تكريس ميزان قوى فقد معه فريق الأكثرية النيابية قدرته على المضي في الاستئثار بالسلطة.
ورغم أهمية ما حصل في «الدوحة» لجهة الضبط النسبي للمسار المتوتر والخطير الذي عانته البلاد طوال السنوات الثلاث الماضية، إلا أن الحلول ما زالت، للأسف، بعيدة ما دامت المعالجات لا تتجه إلى أصل الاختلالات الخطيرة القائمة في علاقات اللبنانيين في ما بينهم من جهة، وفي ما بينهم وبين الخارج، من جهة أخرى. والمقصود، بالدرجة الأولى، الخلل القائم في النظام السياسي الطائفي اللبناني. فهذا النظام مثّل، ولا يزال، عقبة خطيرة أمام قيام دولة موحّدة ومتماسكة وحصينة. وهو شرَّع البلاد أمام التدخلات الخارجية من كل صنف ولون، ما عمّق أيضاً أزمة التوحد الوطني المطلوب في حده الأدنى، وخصوصاً لمواجهة الرياح التي تعصف بالمنطقة وبدولها وبمصيرها منذ الغزو الأميركي للعراق في نيسان من عام 2003.
ويعكس البيان الوزاري، لوحة شبه مكتملة من مظاهر الأزمة التي ما زالت تتخبط بها البلاد. فمجلس النواب نفسه، كسائر المؤسسات الدستورية، قد فشل في مجرد الانعقاد. وقد عكس ذلك جزءاً من واقع أن مؤسساتنا تعجز عن استيعاب الصدمات والأزمات وقت حصولها، وتصبح مصائر لبنان وشعبه في مهب التصعيد، أو في مهب المصالح والتناقضات الخارجية.
لقد تناول البيان الوزاري بعض العناوين الخلافية في صيغ جرى فيها تدوير الزوايا وقول الشيء ونقيضه في الوقت نفسه. وهذا أمر خطير يعكس استمرار الصراع، وخصوصاً على مسائل تحتاج أكثر من سواها إلى التوحد الوطني، كمثل الموقف من العدوان الإسرائيلي ومقاومته بكل الوسائل، وبذل كل الجهد لتحرير ما بقي من أرضنا المحتلة، وصياغة استراتيجية دفاعية تنطلق من هذا الواجب الوطني كأولوية لا يجوز الإخلال بها مهما كانت المبررات.
وقد عكست الإضافات التي تبرع بها رئيس الحكومة السيد فؤاد السنيورة في كلمته التي افتتح بها النقاشات في جلسات الثقة هذا الواقع المريض. فهو خرج على النص في إشارة مبكرة إلى استمرار الصراع، وإلى حقيقة أن ما اتُّفق عليه هو أعجز بكثير من أن يمثّل مقدمة لوضع البلاد على شاطئ الأمان. كذلك عكست الواقع الانقسامي سلسلة التوترات الحادة التي شهدتها الجلسة، والتي لا يكفي في سبيل تبريرها وتفسيرها اعتبارها مجرد مزايدات انتخابية!
وفي امتداد ذلك، يبقى أن ما غاب عن نص البيان الوزاري هو أيضاً بمثل الخطورة إياها، إن لم يكن أكبر. فلقد جرى مثلاً تأكيد الالتزام بكل بنود «اتفاق الطائف». أما ما جرى إعطاء المثل بشأنه فهو تعهد التزام تنفيذ مبدأ المناصفة الطائفية في وظائف الفئة الأولى، في حين أن البنود الإصلاحية في «الطائف» قد أُغفلت بالكامل، رغم أنه كان يجب المباشرة بتنفيذها منذ عام 1992 (المادة 95 من الدستور).
وفي موضوع قانون الانتخاب، بدا كأن اللبنانيين محكومون بأن يختاروا فقط، بين الأسوأ الذي هو قانون الـ2000، وقانون سيئ هو قانون 1960!
إن إصلاح قانون الانتخاب باعتماد مبدأ النسبية هو أحد شروط احتواء الصراعات الداخلية الحادة، فضلاً عما يوفره من صحة التمثيل. أما استمرار الأخذ بالقيد الطائفي فهو مخالفة دستورية خطيرة وإمعان في تأبيد عوامل التخلف والانقسام والارتهان في الجسد اللبناني!
وتنعكس هذه السلبيات بالتأكيد، على تناول الملفات المهمة الأخرى في الأزمة اللبنانية، ومنها ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. ومهما كان التقدم المحقق في القمة السورية ـــــ اللبنانية الأخيرة، فهو لن يثمر ما لم يستند إلى مقاربة جديدة حيال الوضع اللبناني، تقوم من سلطات دمشق على قاعدة «التكافؤ».
أما الجانب اللبناني فهو مطالب بالتخفف من عبء استمرار قوى نافذة في فريق الأكثرية بالارتباط بالسياسات الأميركية في لبنان وفي المنطقة.
وبديهي أن هذا الواقع لا يعد بالكثير في توفير الأساس الضروري للانخراط في معالجة الوضع الاقتصادي ـــــ الاجتماعي الذي بلغ مرحلة خطيرة لجهة مؤشراته وانعكاساته في الوقت نفسه. إن البلاد تعاني مديونية عالية ترتفع أرقامها سنة بعد سنة، وإلى درجة مخيفة. ويرافق ذلك تدهور إنتاجي وانكماش وكساد وفساد وخراب اقتصادي. وتتفاقم بسبب ذلك البطالة والهجرة، وخصوصاً في صفوف الشباب. ويتّسع الفقر لينضم إلى ضحاياه مئات الألوف من اللبنانيين ممّن تتقلص مداخيلهم يوماً بعد يوم.
إنّ ما تناوله البيان الوزاري لا يمتّ إلى الإصلاح الاقتصادي المنشود بأي صلة. إنه في الواقع مجموعة قرارات بزيادة العبء الضريبي المباشر على المواطنين من دون تمييز! وهو في الجانب الثاني منه تأكيد على تسريع الخطى نحو خصخصة مرافق الدولة الحيوية والإنتاجية، بعيداً عن أي خطة متكاملة للنهوض الاقتصادي ولتكبير حجم الاقتصاد ولتحسين وتائر النمو ولجذب الاستثمار وتحفيزه لدى اللبنانيين وغير اللبنانيين على حد سواء.
في امتداد هذا الواقع ذي الأزمات المتعددة والمتداخلة والمتفاعلة مع الاضطراب الإقليمي، لا يبدو أن مؤتمر الحوار الذي سيدعو إليه قريباً رئيس الجمهورية، سيضيف الكثير إلى ما تحقق في «مؤتمر الدوحة». ولن يحصل ذلك بغير أمرين: أولهما إقرار جدول أعمال للحوار يتضمن، في ما يتضمن، تحديد عوامل الخلل في النظام السياسي، وثانيهما توسيع طاولة الحوار لكي تضم ممثلي قوى سياسية وأهلية ذات رؤى إصلاحية وتغييرية جذرية.
ويطرح هذا الواقع الذي استعصت معه الأزمة اللبنانية، بسبب الخلل القائم في النظام السياسي، مسائل عديدة من نوع: كيف يكون الحل؟ وممن يأتي؟ ومن هي قواه موضوعياً؟
تمثّل صرخة الرئيس السابق لمجلس النواب اللبناني السيد حسين الحسيني واستقالته، محاولة متجددة، للإصلاح من داخل النظام، أي من داخل التركيبة التقليدية. والواقع أن الرئيس الحسيني قد بذل جهوداً متواصلة لعقلنة «الصيغة اللبنانية» ولتحديثها ولانفتاحها على التطور. وهو أدى دوراً بارزاً في صياغة الإصلاحات الدستورية في اتفاق «الطائف» وإقرارها، ومن ثم المكرسة في الدستور اللبناني (القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21/9/1990). وقد أطلقت إشارات متعددة من عدد من الشخصيات (أبرزها الرئيس سليم الحص) محذرة من مخاطر المسار الطائفي الراهن على مصير البلاد.
ونستطيع القول إنّ فريقاً كبيراً من البورجوازية اللبنانية (بمختلف أجنحتها الصناعية والتجارية والخدماتية) ذو مصلحة أكيدة في تحديث النظام اللبناني. لكن عمل هذه الفئات ما زال خجولاً. وهي فئات تتسم معظم مواقفها وعلاقاتها بالانتهازية المفرطة والتركيز على الربح وتعظيمه وإهمال المشاركة السياسية لمصلحة القوى التقليدية الإقطاعية السياسية والدينية.
ولم تخرج تجربة الرئيس رفيق الحريري عن هذا السياق. فقد انخرط في الصيغة، باحثاً عن حصة، عوض أن يلتزم مبدأ التحديث، منضماً إلى قوى الإصلاح. لن يقود ذلك إلى اليأس من القوى البورجوازية ذات المصلحة في الإصلاح. ولن يعني، بالمقابل، إيكال مهمة الإصلاح لمن اعتاد تقديم مصالحه الفئوية على المصالح الوطنية.
إن الفئات الشعبية وممثيلها هما الأجدر، طبقياً واجتماعياً وسياسياً وتاريخياً بتصدر مسيرة التحديث والإنقاذ. لقد مثّلت الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط محاولة لا بأس بها من استعادتها وتطويرها وفق الظروف الراهنة.
* كاتب وسياسي لبناني