لا تمثّل النظريات الفلسفية مرجعية أبو عماد. سمته هي البساطة، ومدرسته كانت الشارع. أما خبرته الإنسانية، فقد استمدّها من عمله في «الأفران الوطنية» في شارع «بلسّ» طوال 34 عاماً عاش خلالها الحروب والتحوّلات الاجتماعية التي لم تلوّث صفاء روحه
رنا حايك
19 نيسان 1975. يذكر أبو عماد جيداً ذلك التاريخ. كان نهار اثنين، ذلك اليوم لم يؤرّخ لبداية الحرب الأهلية في لبنان، بل كان اليوم الذي باشر فيه عمله في الأفران الوطنية في شارع «بلسّ». كانت النيران تشتعل وكان هو ينطلق في عمل جديد بعدما أدى انقطاع الكهرباء إلى إقفال أفران الكبوشية حيث كان يعمل. فقد بدأ نظير حسن السنغري العمل باكراً لإعالة والدته بعد وفاة الوالد.
تغرورق عيناه بالدموع حين يذكرها: «بعد الأم، احفر وطمّ». فقد كانت هي من علّمه «الأدب والشرف والصدق، وهي أشياء لا تعلّمها المدارس».
ولد ابن الأسرة الطرابلسية في بيروت، وهرب من المدرسة إلى البحر ككلّ الأطفال، لكنه تعلّم في الشارع ما لم يتعلموه، وحين أجبر على العمل باكراً، كانت الحسرة تنتابه من مشهد الأطفال يرتادون المدارس، بينما هو مجبر على العمل، حتى حين يكون مريضاً، رغم إدراكه أنه يتعلم في السوق ما لا يتعلمونه هم في المدارس.
في التاسعة من عمره بدأ العمل في أفران الكبوشية، ثم انتقل عام 1975 إلى الأفران الوطنية. في الأولى تعرّف إلى أجيال من خرّيجي مدرسة السيدة في منطقة الكبوشية، وفي الثانية «خرّج» 11 دورة من طلاب «الجامعة الأميركية». جميعهم أصدقاؤه: الفتيات يشكون له أحياناً قسوة الحبيب، لا يقدم النصائح، بل يكتفي بالاستماع. يحادثه الشباب، يساعدونه ويساعدهم: فأبو عماد لا يتقاضى راتباً منذ 13 سنة، يعمل في الفرن ويعيش على ما يجمعه من إكراميات من زبائن يصبحون أصدقاء. قد ينقذ أحدهم من الإحراج إذا ما اكتشف فجأة أنه لا يملك مالاً كافياً ليدعو صديقته إلى المناقيش، وفي أحيان كثيرة، قد ينتقص من حقه «من المية تسعين» أمام زبائن طيبين، لكنهم سكارى. فالأفران التي يعمل فيها هي بمثابة محطة ثابتة يرتادها «السّهيرة» لفطور باكر جداً بعد السهرة وتناول الكحول والرقص. يحافظ أبو عماد على هؤلاء، يحتوي طيشهم فيأتون في اليوم التالي للاعتذار وكأنه والد لهم.
التعامل معهم ليس أصعب ما مرّ على أبو عماد، فالرهان الحقيقي كان اجتياز سنوات حرب طحنت في رحاها الكثير من الأبرياء: ففي دوامة العنف كان للكلمة حساب وللتصرّف البسيط ألف تأويل. رغم أنه كان يلاحظ المتقاتلين يلتمون على مائدة واحدة خلال النهار يتناولون المناقيش معاً، ثم يتودعون مع هبوط الليل لممارسة هواية رماية بعضهم لبعض من وراء المتاريس.
التحفظ هو السلاح الذي تمسّك به أبو عماد في تلك المرحلة: تكفّلت إحدى الفصائل المتصارعة في توفير الطحين، فاستمرّ نشاط الفرن ولم يقفل أبوابه. كان يخبز جزءاً من العجين لحركة فتح، والجزء الآخر يبيعه لمدنيين يقفون في الطوابير ليحصلوا على ربطة واحدة لأسرتهم. لم يكن أبو عماد يتدخّل، يمارس عمله بصمت مع استثناء وحيد: فمن حين إلى آخر كان يتعاطف مع ربّات المنازل، فيعفيهن من الوقوف في «الصّف» ويتكفّل بتوفير حصتهن، على أن يعدن بعد فترة لتسلّمها. لا يزال التحفظ سلاح أبو عماد حتى اليوم، فيما تشتعل البلاد بنيران الشّحن الطائفي والانقسام السياسي «القبلي»، يشاهد هو قناته المفضلة على التلفزيون، animal planet، وحين يحاول أحد زبائن الفرن استدراجه إلى حديث سياسي، يبادر بسؤاله: «عشو بدّك المنقوشة؟».
كذلك لم تمنع الحرب أبو عماد من متابعة حياته الشخصية، فبعدما اصطحبت زوجته الأولى، من التابعية الإسبانية، ولديه مع اندلاع شرارة الحرب الأولى عام 1975، وعادت بهما إلى بلادها رغم رفضه الالتحاق بهم، عاد أبو عماد وتزوج ثانية. لم يرض أن يفارق والدته التي كانت لا تزال حيّة، ولم يرض أن يفارق بلده، فهو «متل السمك، ما في يطلع من البحر». أصاب زوجته الثانية مرض قضى عليها، فتزوّج للمرة الثالثة، منذ نحو عام، فتاة اسمها فتاة، يمازحها واصفاً عمرها واسمها بالـ«القطع المتوسط»، فهي من ذلك الجيل الذي سمّي «سميرة وسلمى وليس فيفي ودودو...». يعيشان بهدوء بعيد عن الملل، يحتفيان ببعضهما باستمرار، وبالنسبة إليهما، هما «عصفورين بيطيروا ويغِطوا سوا». فهو يعمل من السادسة مساء حتى السادسة صباحاً، ينام نحو 4 ساعات فقط، هي قليلة لشخص في الثامنة والخمسين من عمره، ثم يقضيان نهاراتهما في التسكع في مقاهي الحمرا وشوارعها التي تألفهما، ويبثّان فيها طاقة إيجابية مريحة. 34 عاماً في الحمرا: يحفظ أبو عماد عن ظهر قلب زواريبها ووجوه روّادها وقصص أصحاب المحالّ والعمال فيها، وحتى شحاذيها «اللي كلهن كذابين» كما يؤكد.
يعرف الجميع ويعرفونه، يرى أنه «ربّاهم»، ويشهد أحياناً نمو أبنائهم فيبتسم، إذ يتذكر منظرهم وهم لا يزالون طلاباً «يمتشقون» الشنطة المدرسية. حين يتغيّب يقصدون منزله للاطمئنان عليه، ويعوّضون الفرصة التي فاتتهم لإكرامه، فهم يعرفون أن الإكرامية هي مصدر رزقه الوحيد، وأنه ارتأى أسلوب العمل هذا حين خيّره صاحب المحل. اختار يومها أن يعمل أمام المحل لا داخله معتمداً على رصيده من المعارف وعلى العلاقات الإنسانية الوطيدة التي بناها مع الزبائن. فقد كان بإمكانه أن يعمل في الداخل حيث يكون بمثابة «جوكر» بسبب خبرته في تسلّم أي مهام في الفرن وإتمامها على أكمل وجه. لكنه آثر الخارج لأنه يشعره «بحرية أكبر».
شاهد أبو عماد الكثير خلال 34 عاماً، ورصد التحولات القيمية التي حلّت بزبائنه، فالبنات «كانوا مستورين أكتر والشباب حتى لو أوادم لما يشربوا بيضيعوا». أما النجوم والفنانين، فيعرفهم جميعاً: «عاصي الحلاني كريم، وجورج وسوف أيضاً، أما هيفا فعتبان عليها من كبريائها، لأنها لا تهتم بالعجقة فحين تأتي تريد أن تتم خدمتها بتجاوز كل الزبائن الموجودين».
لم تدنّس الحرب التي عاش أبو عماد يومياتها ولا الشارع الذي يقضي فيه أوقاته، الطيبة التي تحكم سلوكه والثبات الذي يحكم خياراته ومبادئه: هو موظف بسيط غيور على حريته، يبني صداقات مع الزبائن، ويتمسّك بروحه المرحة نهجاً للحياة، ويتمتع بحكمة وصبر وبساطة في التعامل مع يومياته أسعفته حتى اليوم بالحفاظ على حياة مستكينة رغم كثرة الوجوه والأشباح التي تصطخب بها لياليه.


أبو طارق والبقشيش

يذكر أبو عماد أنه ذات ليلة، أكرمه الفنان وليد توفيق، أبو طارق «ناولني 10 آلاف ليرة، وقال خلي الباقي». بعدها بلحظات، جاءت زبونة خليجية ونادت أبو عماد «أبغي 2 لحمة». ودفعت للرجل مئة دولار وقالت له: «خلِّ الباقي». يومها، ضحك الفنان طويلاً حين ردّ له أبو عماد الآلاف العشرة، مقترحاً عليه 10 آلاف إضافية «يخليها عشانه»