تثير حادثة هروب عائلة حلّس إلى إسرائيل أسئلة بشأن الصراع بين حركتي «حماس» و«فتح»، والمصير البائس الذي لم يتوقّعه أحد لحركة «فتح» التي كانت ذات يوم واحدة من حركات التحرّر الأساسيّة في العالم
أسعد أبو خليل*
لم تتمالكْ جيزيل خوري أعصابَها في مستهلّ مقابلتِها مع سلام فيّاض (ممثّل البنك الدولي في سلطة أوسلو المنتدبة من الاحتلال) قبل أسبوع. فهي كادت أن تذرفَ الدمعَ غضَباً وحزناً على مصير دحلانيّي عائلة حلّس، هؤلاء الذين هربوا بسراويلِهم الداخليّة إلى اسرائيل خوفاً من حماس في غزّة. وصَفَتهم جيزيل بـ«المقاوِمين»، إذ إن لإعلام الوهابيّة وحدَه سلطة إطلاق أوصاف المقاومة والوطنيّة والشهادة على الناس.
الإعلام العربي الخاضع لمشيئة الحلف السعودي ـــــ الإسرائيلي (بات الإعلام الإسرائيلي صريحاً جداً في حديثِه عن لقاءاتٍ دورية منتظمة بين ممثّلين عن الحكومة السعوديّة والحكومة الإسرائيليّة للتنسيق بين المواقف والسياسات في المنطقة) ذاق اللوعة لما جرى لدحلانيّي عائلة حلّس الذين ضلعوا في ما ضلعوا في خطف الأجانب والسرقة و«التشبيح»، بالإضافة إلى إدارة أعمال في الرقيق الأبيض وفي التهريب. ورضوان السيِّد في جريدة الأمير سلمان أسف شديدَ الأسف لإذلال عصابات محمد دحلان. لكن السؤال يجب أن يُوجَّه في اتجاهيْن: يمكن المرء أن يجري نقداً صارماً لتجربة حماس في السلطة وفي خارجِها (في خطابِها الكريه وفي أدائِها العسكري الفاشل... ضد المُحتلّ) وإن كان تعاطيها عنيفاً، مع فريق الدحلان، يمكن أن يندرج في إطار رفض أدوات الاحتلال. لكن لماذا يسهلُ تفريقُ صفوف قوات فتح المستفيدة من عطاءات خليجيّة وإسرائيليّة ومصريّة وأردنيّة وأميركيّة؟ لماذا تُسارع عصابات دحلان المُدرّبة إلى الهرب بالسراويل الداخليّة؟
من كان يتوقّع أن تنتهي حركة فتح إلى ما انتهت إليه من سقوط وإذلال؟ رعاعٌ يهربون مذعورين إلى إسرائيل (كما هربت ركضاً وهلعاً بقايا جيش لحد خلف الحدود، ويعمل جبران باسيل على إرجاعهم مكرّمين إلى منازلِهم في عراضة قد يحضرها البطريرك صفير)، وتقوم إسرائيل بتجريدِهم من ثيابِهم إلا السراويل الداخليّة إمعاناً في الإذلال. وصحيفة «النيويورك تايمز» تذكرُ عَرَضاً أن الحكومة الإسرائيليّة تعمل ما في وسعها لإنقاذ حركة فتح وتعزيزِها. ما كان هو المآل المحتوم. كانت حركةً واعدةً بالرغم من الصعوبات والعوائق والتعثّرات، منذ البدايات. كتب فيها نزار قباني كرّاساً تبجيليّاً يوم أصبح الفدائي عنوانَ الخلاص العربي. التحليل السهل قد ينحو نحو لوم القيادات الفلسطينيّة. تبدأ بالحاج أمين الحسيني: هذا الذي قدّم للدعاية الصهيونية، بغبائِه وقصرِ نظره وعنادِه، خدماتٍ جلّى. لقاءٌ أو لقاءيْن مع هتلر كانت كافية لتمدَّ الدعاية الصهيونية في الغرب بعون مستمرّ. هناك من أفرد كتاباً عن اللقاءيْن، مع أن المفتي لم يكن يعمل إلا على أساس الصداقة (أو وهمِها) مع عدوّ العدو، وكانت تلك العلاقة الشنيعة مبنيّة على فرضيّة خاطئة تجهل موقع العربي في البناء التراتبي للأعراق في المخيّلة العنصريّة للنازيّة. ظنّ المفتي أنه يتذاكى فوصمَ القضيّة الفلسطينيّة في الغرب بوصمة عقود، مع أنه نجح للحق في تقويض خطة صهيونيّة موضوعة (وُضِعت لبناتُها الأولى وفقَ ما نُشر من الأرشيف الصهيوني في اوائل العشرينيات من القرن الماضي) لإثارة الشقاق بين المسيحيّين والفلسطينيّين. مثله مثل ياسر عرفات في هذا، لم يكن التمييز بين الفلسطينيّين على أساس الدين أو الطائفة (كما في مسخ وطن الأرز) وارداً أبداً. والحاج أمين لم يكن في تكوينه راديكاليّاً على ما تُصوّره الدعاية الصهيونيّة (والبريطانيّة من قبل). على العكس، فالمفتي، كما ورد في أفضل سيرة كُتِبت عنه لفيليب مطر، اقتيدَ من الناس ولم يَقدْ أثناء الثورة الفلسطينيّة الكبرى في الثلاثينيات. وهو كان يتأثّر بموقف الدول العربية المُسيّرة من المستعمر البريطاني، وهي التي أشارت على ثوّار فلسطين بهدنة عام 1937. كانت الثورة على إسرائيل عند آل سعود ـــــ الامس مثل اليوم ـــــ «مغامرة» غير محمودة العواقب.
وبعد حقبة تهريج لأحمد الشقيري (الذي عزت له الصهيونية كذباً وافتراءً تهديدَه برمي اليهود في البحر، مع أن حسن البنّا هو الذي أطلق التهديد في عام 1948 كما ورد في مجلة «المصوّر» في ذلك العام) الذي بدأ سعودياً وانتهى ناصرياً، جاء ياسر عرفات. كانت حركة فتح تمثل الآمال المعقودة على الفدائي بعد هزائم متوالية للجيوش العربية التي لم تكن قياداتُها تريد لها أن تحارب إسرائيل. مَسرحيّات أُعدت بإخراج هزلي، وعبد الحكيم عامر (أو المشير) ربما أرّخَ بانتحارِه موتَ زمن الركون الفلسطيني إلى الجيوش العربية. انطلق الفدائي الفلسطيني رغم أنف الأنظمة العربية، وأسّس عبد الناصر منظمة التحرير من أجل تقويض الثورة الفلسطينيّة أو السيطرة عليها. وشابَ حركة فتح منذ التأسيس فوضى وسوء تنظيم وشرذمة، مقصودة. يكفي أن يكون ياسر عرفات واحداً من المؤسِّسين. الإخواني هذا عقدَ العزم على فصل النضال الفلسطيني عن سيطرة الأنظمة العربية، قولاً. كم هتفَ بشعار استقلال القرار الفلسطيني. انتهى بأن قوقع القضيّة الفلسطينيّة وعزَلها عن شعوب الدول العربية التي كانت ترى أنها معنيّة مثل الإخوة والأخوات في فلسطين المحتلة. وبدلاً من تحقيق استقلاليّة القرار الفلسطيني، وضع سلّته في يد أنظمة الخليج النفطيّة. الأرشيف الأميركي لا يستر واقع التأثير السعودي، والضغط السياسي بالنيابة عن واشنطن، على حركة فتح. لم يتضحْ مدى تسليم عرفات مقدِّرات الحركة إلى أنظمة النفط (ومدى ضعفها) كما بدا في عام 1990 عندما قّرر أن يراهن (مثله مثل ملك الأردن الذي غُفر له على عجل) على فوز صدام حسين. كادت الحركة أن تنهار بعد ذلك.
يكتنفُ تأسيس الحركة ضبابية شبه مقصودة. قد تكون عملية التأسيس لم تحدث في أذهان المؤسِّسين. أياًً من التواريخ تعتمد؟ كل واحد من المؤسِّسين يعتمد تاريخاً خاصاً به. إحدى الروايات في مجلة «الأسبوع العربي» (22 كانون الثاني، 1968) تذكر تواريخ تأسيسيّة مختلفة: أوّل خليّة أُنشئت في عام 1958، مع أن التفكير بإنشاء فتح بدأ في 1953ـــــ1955. وبدأت مجلة «فلسطيننا» الناطقة باسم الحركة في الصدور في عام 1958، وكان صدورُها إيذاناً رسمياً بانطلاقة الحركة. لكن هناك من يقول إن انطلاقة «العاصفة» هي الانطلاقة الحقيقية للحركة. كان عرفات واحداً في مجموعة أصرّت على العمل الجماعي بدايةً، واستمرّت حركة فتح حتى في سنوات الحرب الأهليّة في احترام حدٍّ من القيادة الجماعيّة في اللجنة المركزيّة لحركة فتح بالرغم من زئبقيّة وألاعيب ونزعة التسلّط والاستفراد عند ياسر عرفات. ويَروي مَنْ عاصَرَ الحركة في سنوات التأسيس أن أكثر القياديّين كانوا مشككين بياسر عرفات، ليس فقط بسبب تهريجِه الإعلامي ونبرة التبجّح الشقيريّة التي كان يفضّلها في بيانات الحركة (كذب عرفات حتى في الإعلان الأول لـ«العاصفة»)، بل بسبب توافر المال بكثرة بين يديه، لا لأغراض خاصّة (فالرجل كما يعرف الجميع كان زاهداً شخصياً، وإن استعملَ الفساد لضرب خصومِه ولمكافأة أتباعِه ولشراء قياديّين في منظمات فلسطينيّة)، بل لخدمة خطِّه ودورِه في الحركة. يُقال إن أبو إياد وأخاً له في القيادة قرّرا ذات مرة أن يمنعا الموارد الماليّة عن ياسر عرفات لتحجيم دورِه. غاب الأخير ليظهر بعد أسابيع غاضباً مزمجراً، ناثراً آلاف الدولارات على طاولة اجتماع فتحاوي قيادي. رضخوا له. لكن لم يكن سهلاً عليه السيطرة على قيادات قويّة وقادرة من طراز أبو أياد وأبو جهاد وأبو صالح وأبو الوليد وأبو الهول وكمال عدوان وناجي علوش (أبو مازن لم يكن يُذكَر. كان من الصغار الصغار، وأقنع نفسَه أنه ذو مواهب أكاديميّة فانكبّ على دراسة الصهيونيّة، وكانت كتاباتُه في الصهيونيّة معادية لليهود كيهود، ومشكِّكَة بالمحرقة على طريقة أحمدي نجاد، وإن لم تنمّ مذكراتُه عن عمق دراية بالصهيونيّة، فهو عزا شعار «الأرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض» إلى ثيودور هرتزل، مع أن القائل هو الصهيوني «إسرائيل زنجويل»).
وكانت للحركة عقيدة (أو جملة من الشعارات العامّة) أراد لها عرفات أن تكون ضبابيّة لتسهيل الزئبقيّة والتلوّن، وهو عَمِل على تمييع الموقف القتالي ـــــ الإيديولوجي للحركة المعتمد على نظرية «التوريط». ونظرية «التوريط» لم تكن في بداياتِها متعارضة مع نظرية جورج حبش في خلق «هانوي عربيّة». لم تتهاون الأنظمة العربية مع الحركة خشية أن يُجَرّوا مرغمين إلى مواجهة مع إسرائيل ــــ كانوا يعِدون شعوبَهم بتلك المواجهة ويطمئِنون إسرائيل سرّاً إلى حسن نياتهم. أول ضحايا مقاتلي حركة فتح (أو قوات العاصفة) قُتلوا على أيدي جيوش الأنظمة العربية: أحمد موسى إبراهيم قُتل برصاص الجيش الأردني في عام 1965، وجلال كعوش مات تحت التعذيب في أقبية المكتب الثاني اللبناني في عام 1965 أيضاً. (يراجع الثبت الكامل في الكتاب السنوي لحركة فتح لعام 1968). وعت الأنظمة خطورة ما يجري، والنظام في سوريا كان بين شاقوفيْن: صلاح جديد كان مقتنعاً بصوابيّة حرب التحرير الشعبية، فيما كان حافظ الأسد ينتظر ـــــ كما انتظر طوال حياته ـــــ الوقت المناسب لـ«تحديد زمان المعركة ومكانها» من أجل التحرير (كذلك ينتظر بشار الأسد من بعده الوقت المناسب لتحديد «زمان المعركة ومكانها»، فيما يجول وفد سوري ذليل في واشنطن لاستجداء استعطاف اللوبي الصهيوني). لكن الإيديولوجيا الفتحاويّة عانت أيضاً من تناقضات وصراعات لم تكن سهلة: كيف تُوفّق بين جناح أبو عمّار ـــــ أبو السعيد المُوالي للمال النفطي، وتيّارات ماركسيّة وماويّة مَثّلها منير شفيق (قبل أن يتحوَّل إلى إسلامي) وناجي علوش وأبو صالح، فيما كان أبو إياد وسطيّاً. واستطاع عرفات خصوصاً في سنوات الحرب الأهلية في لبنان أن يُحوِّل الأجنحة إلى دكاكين. أغرقها بالمال الفاسد، وهذا العامل (ولم يحن بعد زمن تقويم ضرره العام على الثورة الفلسطينية بانتظار توافر الوثائق والأرشيف لنعلم إذا كان في الأمر مؤامرة مُدبّرة أم أنها صدفة) هو الذي لم يؤثّر سلباً على أداء التنظيمات الفلسطينية فقط، بل على تجربة الثورة في الأردن ثم في لبنان، إلى درجة ساعدت أعداء الثورة على شنّ حروب على مخيَّمات اللاجئين وتنظيماتهم.
المال النفطي قضى على إمكان الثورة من أساسِها، فتحوّلت حركة فتح وغيرها من التنظيمات من نمط العمل السرّي المُنظّم إلى بيروقراطيّة هائلة من المكاتب والمؤسّسات التي تحتاج إلى دفق من المال للاستمرار. وهذا الترهّل المكتبي ساعد عرفات على خنق إمكان الانتفاضة على سياساتِه وحركاتِه البهلوانيّة. لم يستطع أبو اللطف مثلاً أن يعارض جدياً سلطة عرفات وأبو مازن من بعده، لأنه يحتاج إلى الصرف على مكاتب حول العالم تتبع الدائرة السياسية ـــــ بالاسم على الأقل ـــــ إذ إن سلطة أوسلو، وخصوصاً بعد تسميم عرفات، أخضعت المكاتب الدبلوماسيّة حول العالم لمكتب محمد دحلان وعصاباته.
كانت انتفاضة أبو موسى وأبو صالح وأبو خالد العملة واعدة في بداياتها بعد هزيمة 1982، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ذراع للنظام السوري ومؤامراته على عرفات. لم يكن ياسر عرفات، ولا خالد الحسن، ولا تلك الأنظمة الخليجيّة الموالية للمشيئة الأميركيّة تريد أن يتحوّل لبنان إلى بداية نظام ثوري يقضي على إمكان الحفاظ على انصياع عربي للقوّة العسكرية الإسرائيليّة. نظرية التوريط كانت أكبر من طاقة الأنظمة العربيّة (كلها من دون استثناء) على التحمّل. دعمت السعودية وسوريا الميليشيات اليمينيّة المدعومة من إسرائيل (أي ميليشيات وزير العدل اللبناني الحالي ـــــ فليحيَ العدل في جمهورية الموز المطعّم بالأرز)، وكان ياسر عرفات لا يريد أن يطبّق نظرية التوريط في لبنان. كان يعارض التدخل في الحرب التي بدأت لبنانيّة خالصة. لكن أبو صالح وأبو أياد عارضا توجّه عرفات، وكانا يدعمان فريق الحركة الوطنية اللبنانية بالسرّ أحياناً، ومستفيدين من غياب عرفات عن الساحة اللبنانية أحياناً أخرى. وعرفات وأبو جهاد منعا الثورة الفلسطينية من التصدّي الحقيقي والفاعل للتدخّل العسكري السوري في عام 1976. أرادا تسجيل موقف سياسي ليس إلا، فيما كانت القواعد (الشعبيّة) اللبنانيّة والفلسطينيّة تطالب بمقاومة حقيقية. والذين ألفوا نواة حرب عصابات ضد الجيش السوري آنذاك (مثل بعض تنظيمات جبهة الرفض وحزب العمل الاشتراكي العربي ـــــ لبنان وبعض التنظيمات الناصريّة واليساريّة في صيدا) كانوا على علاقة خصام وعداوة مع حركة فتح.
لكن حركة فتح وقعت في المحظور في عام 1990. الرهان على صدام قضى على إمكان تمويل بيروقراطيّة الثورة. تبخّر المال النفطي بين ليلة وضحاها. وتزامن هذا مع جملة اغتيالات لخيرة من قادة المقاومة الفلسطينية حول العالم ـــــ صدفةً طبعاً، إلا إذا صدّقتم أن هناك مؤامرة أميركية ـــــ سعوديّة ـــــ إسرائيليّة في الشرق الأوسط مع أن إلياس عطا الله ـــــ زهرا (اليساري الحريري) يؤكد أنه لا مؤامرة إلا مؤامرة المحور السوري ـــــ الإيراني. والاغتيالات التي سُجِّلت على عصابة أبو نضال الإرهابيّة لم تكن بعيدة عن إسرائيل وعن النظام الأردني. كل القيادات التي كانت مستعدة منطقيّاً لوراثة عرفات صُفِّيَت. لم يبقَ من قيادات الصف الأول واحداً ممن كان في دائرة خلافة عرفات. بقي أمثال أبو مازن في الصف الثاني والثالث. لم تخفِ إسرائيل وأميركا رغبتَها في تنصيب أبو مازن خليفة لعرفات، حتى عندما كان الأخير حياً يُرزق. هو وصف أبو مازن بـ«كرزاي فلسطين» (ولنا في لبنان كرزاي «منتخب ديموقراطياً» طبعاً، لكنّه يحظى بتأييد حماسي من تلك السيدة التي كانت تعدّ أطباقاً لبنانية لأرييل شارون عند زياراته للبنان)، وحرد الأخير على هذا الوصف.
عرفات ارتكب الخطيئة الثانية التي قضت مقتلاً في مسيرة فتح. قَبِل بأوسلو على مضض، وكان في مجالسه يلوم الأنظمة والجماهير العربيّة التي خذلته. أما عن خذلان الأنظمة، فهو غير دقيق. كيف يخذلك من لم تتأمّلْ خيراً منه؟ أما عن خذلان الجماهير، فيتحمّل ياسر عرفات جزءاً منها، لأنه في شعاراتِه وممارساتِه جعل من فلسطين قضية قطريّة ضيِّقة. ياسر عرفات طرد الجماهير العربية (تضايق كلمة «جماهير» الحساسية الليبرالية العربية لعلمِ مريديها أن الرأي العام العربي يخالف توجّهاتِهم، وهذا يفسّر تأييد هؤلاء للتسلّط العربي الشخبوطي) من قضيّة فلسطين. يلاحظ من شاهد عودة الأكفان في عمليّة تبادل الأسرى الأخيرة أن الفدائيّين من العرب كانوا عادة ينضوون في صفوف التنظيمات اليساريّة التي استمرّت في تكريس خطِّ أمميّة معركة تحرير فلسطين وقوميّتها. تحوّلت حركة فتح بإدارة عرفات إلى منظمة شوفينيّة: لم يكن يريد أن يحرج الأنظمة العربية عبر قبول متطوِّعين عرب. ثم نضب معين المتطوّعين العرب عندما غرقت الثورة في وحول لبنان. عندها صرخ مظفر النواب بوجههم مُوبّخاً في «وتريات ليليّة»: «الثورة يُزنى فيها».
لكن قبول أوسلو أتاح لعرفات أن ينسخَ تجربة الثورة المتّسِخة. جلب معه فاسدين من حقبة بيروت، وزاد عليهم فريقاً مستحدَثاً. لم يدرك عرفات أن الشقّ غير المعلن من أوسلو تطلّب شرعنة وجود فريق متعاون ومتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي ليقوم بواجب الاحتلال في حالة أي انسحاب، مثلما طالبت إسرائيل في اتفاقية 17 أيار (التي روّجَ لها رفيق الحريري ولم يعارضْها محمد مهدي شمس الدين) بدمج جيش لحد في قلب الجيش اللبناني (أو دمج الجيش اللبناني في جيش لحد على الأصحّ). لعلّ هذا ما عناه نسيب لحود بـ«كنف الدولة»، مع أن ابن منظور يقول في «لسان العرب» إن الكنف هو الحضن أو الظلّ، ولكن لا حضنَ لهذه الدولة ولا ظلَّ إلا حضن جورج بوش وظله، فماذا نفعل؟
ظاهرة محمد دحلان ليست غريبة عن تجارب الاحتلالات والثورات. فالطفيليّات تنمو تحت أقدام الثورات، والاحتلالات تُنعش وتربّي جيوشاً من المتعامِلين على غرار جيش لحد والقوات اللبنانية. وتستمر تلك القوات بمشيئة الاحتلال، وتنتهي باندثار الاحتلال. وعصابات الدحلان، مثل طفيليّات الثورة، تعتمد على الخوّات والسرقة والرشوة والخطف والتجارة غير المشروعة بالبضائع والبشر. ونحن في لبنان كنا نطلق صفة الدكاكين على هؤلاء من اللبنانيّين والفلسطينيّين الذين كانوا يحظون بتغطية من النظام في سوريا والعراق وياسر عرفات وإسرائيل وليبيا والسعودية وأميركا. بعض هؤلاء عادوا مع عرفات إلى فلسطين، بمن فيهم بيار رزق، مستشار عرفات وزوجته المالي الذي كان سفيرَ القوات اللبنانية في إسرائيل. ويحتاج الاحتلال في مرحلة انتقالِه إلى الاعتماد على جيش من المتعاملين الذين ينعمون بدعم من أنظمة متعدّدة تخضع للمشيئة الأميركيّة، من إسرائيل إلى آل سعود إلى سليلي شخبوط في الإمارات الذين ينافسون آل سعود اليوم في خدمتِهم للمصالح الأميركيّة. وقد أثنى الجنرال دايتون على الجيش الدحلاني في حديث مع صحيفة إسرائيليّة أخيراً. وأبدى دايتون دهشتَه وإعجابَه بخطابٍ كان قد ألقاه القائد الدحلاني، عبد الرزاق يحيى (القائد السابق في جيش التحرير الصُّوَري) في حفل تخرّج لمجموعة من جنود أبو مازن في الأردن. هذا القائد قال للدفعة الجديدة من جيش دايتون إنهم ليسوا في وارد قتال إسرائيل، وإن مهمَّتَهم تنحصر في القتال الداخلي. هتف الجنرال دايتون بحياتِه.
تعرَّضت خطة الاعتماد على دحلان لنكسةٍ كبيرة بعد هزيمة قوّاته الثرِيّة في غزة، بالرغم من محاولات جيزيل خوري لإنقاذ سمعة «أبو فادي» الذي كان، على ما قال، «يستشفي» من إصابة له في السجن. لكنْ هناك حدود لنظرية الاعتماد على جيش دحلان، كما أدركت إسرائيل وأميركا. فتستطيع أن تُغدِق الأموال والسلاح على أيٍ كان، لكنك لا تستطيع أن تمدَّهم بالعقيدة التي تمثِّل الحافز القتالي، أو الرغبة أو القدرة على التضحية. (وهذا ما أدركه آل الحريري في تجربتِهم المُرّة مع ميليشيا الشركات الأمنية). فدور المرتزقة محدود في الحروب الأهلية، وخصوصاً بوجود فئات وتنظيمات تقاتل عقديّاً. وسقوط فتح في غزّة عَرّضَ حركة فتح لكارثة لم تنجُ منها بعد. ومؤتمر فتح العام، المؤجّل لسنوات، بات مؤجّلاً أكثر. والانشقاقات في جسم الحركة تزدادُ اتّساعاً. والإعلام الأميركي والإسرائيلي صريح في ترويجِه لفتح أداةً أميركيّةً ـــــ إسرائيليّة، وهم يعنون فتح أبو مازن ـــــ دحلان. كانت صحيفة الـ«فانيتي فير» أكثر صراحة في تسريبِها لوثائق رسميّة تظهر المؤامرة الأميركية التي كانت تهدف إلى الاستيلاء بالقوة على السلطة (بالنيابة عن إسرائيل طبعاً) في غزّة، وذلك لفرض «رؤية بوش» كما يسمّيها وزير الديماغوجية، صائب عريقات.
ولكن هناك في حركة فتح من لا يزال يحنّ إلى زمن بعيد كانت تمثّل فيه الحركة وجهة وطنية خالصة، اتفقت معها أو اختلفت. بقي بعض الفتحاويّين الذين يظنّون أن بمستطاعِهم إنقاذ الحركة من شرّ دحلان. لكن ليس مسموحاً لفتح أن تستمرّ إلا ذراعاً للمحتلّ. لم يفهم أبو اللطف ذلك بعد. وحركة حماس (الفاشلة في صراع العدو الإسرائيلي والفاعلة في صراع خصومِها الداخليّين ـــــ على عكس حزب الله الناجح في قتال إسرائيل ـــــ سمَّتها صولانج الجميّل في خطبتِها في المجلس النيابي «المعتبرة عدوّة» ـــــ والفاشل في الصراع مع خصومِه الداخليّين).
وسلوك حماس عزّزَ من التشكيك في قدرة الحركة على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. فتزمّتُها الديني وبداية بوادر زئبقيّة سياسية على الطريقة العرفاتية (مع الهدنة وضدّها، مع الاعتراف بإسرائيل وضدّها، مع أوسلو وضدّه، أي سياسة «اللعم» الشهيرة) تضفي على جوّ السياسة الفلسطينيّة مسحة سوداويّة زادَها سواداً غياب الشاعر العربي الفذّ محمود درويش. هنا المفارقة الكبرى في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية: الشعب الفلسطيني يعبّر عن طاقة خلّاقة مميّزة واستثنائيّة، وقيادات فلسطينيّة مقصّرة وفاشلة تتوالى على دفّة الحركة الوطنية الفلسطينية. الشعب الفلسطيني وقضيّة الأرض العزيزة تستحق أفضل من ذلك بكثير. وهي حتماً لا تستحق أمثال محمد دحلان، تلك الظاهرة المريضة والمرضيّة في الجسم الفلسطيني. لكن مهما فعلوا ومهما نصّبوا، فإن «أحمد الزعتر»، وإن أدمَنت الشظايا جسدَه، مُصرٌّ على أن يقول: لا!
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)