حسين بن حمزةحين ذهب الباحث المغربي الشاب إلى الحيّ اللاتيني أواخر الستينيات، لتحصيل الدكتوراه في السوربون، كانت باريس تعيش نقداً جذرياً لأسس الثقافة. كان فوكو ولاكان ودريدا ودولوز وشتراوس وشاتليه... قد أصبحوا أسياد المشهد. أصنام فكرية كثيرة تحطّمت على يد هؤلاء. الفلسفة نفسها ارتجَّت، واختُرقت باقتراحات جديدة. في هذا الجو، أنجز أومليل أطروحته عن ابن خلدون.
في مكتبه في السفارة المغربية، يستعيد أومليل تلك الأيام. يقول إنه كان محظوظاً بتزامن دراسته مع الجو الثقافي الباريسي. يعترف بتأثير منهجية ميشال فوكو في تأريخ الأفكار على عمله. وتحديداً كتابه «الكلمات والأشياء». يتذكّر دفاع فوكو عن قضايا المهاجرين، ومحاضراته الهامة في «كوليج دو فرانس». تردّده على المكتبة الوطنية بدراجته الهوائية، قبل أن تصبح “البيسيكلات” على الموضة.
لماذا ابن خلدون؟ «لتصفية الحساب مع التراثيين» يجيب. هناك نوعان منهم يقول أومليل. تراثيون يرون أنّ التراث كمغارة علي بابا، كلما ضاقت بهم الحال ذهبوا ينقّبون فيها عما يجيب عن أسئلتهم. أما الصنف الثاني فيتألّف من التراثيين الذين يريدون أن يكونوا حداثيين وتقدميين، فيلوون عنق التراث ويحمّلونه ما لا يحتمل. «تركّز عملي على حصر الحدود المعرفية والتاريخية للفكر الذي أنتجه ابن خلدون، بحيث نتفادى فوضى اختلاط الماضي بالحاضر. أي ألّا تكون ثقافتنا مثل دكان الخردة، نجد فيه أشياء أُنتجت منذ أسبوع إلى جانب بضائع عمرها مئات السنين».
نقول له إن حضور الفلسفة في المغرب العربي أقوى من المشرق. هل لهذا علاقة بكون مفكري المغرب أحفاداً لابن خلدون؟ وهل يوافق على صفة «المشرق الشاعر» و«المغرب المفكر»؟ يضحك، متذكراً حادثة قال فيها أدونيس الرأي نفسه: «المسألة ليست وراثية طبعاً. هناك عوامل تسهم في رسم هذه الصورة. أول هذه العوامل هو أنّ التكوين الفلسفي عندنا يبدأ من المرحلة الثانوية. كما أنّ الكتّاب والمفكرين وجدوا أرضية صلبة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط التي تأسّست في العشرينيات كمعهد عالٍ للدراسات».
لكن الفلسفة العربية تبدو تفلسفاً بحتاً، مقارنةً بالفلسفة الأوروبية التي انخرطت في ظواهر الحياة الحديثة، كالسينما والرسم والرواية... وحتى الطبخ والتجميل وغيرهما من المجالات التي تبدو بعيدة عن الفلسفة؟ يقول: «الفرق يعود إلى مكانة الفلسفة في الثقافة العربية، مقارنة بمكانتها في الثقافة الأوروبية. الفلاسفة هناك كانوا رواداً في العلوم الحديثة والاقتصاد والسياسة. فيما الفلسفة في التراث العربي ظل وضعها قلقاً. ولكي تكتسب شرعيتها، امتطت أحصنة أخرى كالطب والفلك والحساب والجغرافيا. ما حدث أن هذه العلوم قُبلت لدى العرب، بينما عورضت أصولها الفلسفية. كما أن مساهمة الفلسفة الإسلامية في الفكر السياسي ــــ باستثناء ابن خلدون ــــ كانت هزيلة. الماضي القلق للفلسفة العربية استمر حتى يومنا هذا، وهو البحث عن تأصيل الفلسفة، ولذلك فهي تدور حول نفسها».
درّس أومليل الفلسفة في جامعة الرباط. لكنّه لم يحصر عمله داخل أسوارها. لم يفصل بين عمله كأستاذ وموقفه كمواطن. بنى علاقة ندّية ومفتوحة مع طلبته. بعض هؤلاء يمثّلون اليوم جيلاً شاباً من المفكرين المميزين. الممارسة خلَّصت نصه الفكري من اللغو الفلسفي والتنظير المحض. عناوين كتبه تدل على صلة وصل واضحة وقوية بين مادته الفلسفية وحركة الواقع وأفكار الحياة: «السلطة الثقافية والسلطة السياسية»، «الفكر العربي والمتغيرات الدولية»، «سؤال الثقافة».
كل ذلك كان استمراراً لمسيرة شخصية بدأها أومليل مناضلاً ومعارضاً في «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» حزب المهدي بن بركة الذي اغتيل في باريس سنة 1965.
في عام 1979، وفي ظروف سياسية صعبة، أسس أومليل مع آخرين «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان»، وانتُخب رئيساً لها، ثم أصبح مديراً لتحرير جريدتيها «التضامن» وSolidarité. كان ذلك أشبه بمن يضع روحه على كفه. يتذكر أومليل تلك الفترة: «المفارقة الغريبة التي لا نجدها سوى في المغرب ربما، أنّ الجمعية كان معترفاً بها، وكان لدينا مقرّ نجتمع فيه. فما بالك إذا قارنا تلك المرحلة بما نعيشه اليوم؟ لقد قطعنا مسافات فلكية في مجال حقوق الإنسان والانفتاح السياسي».
بعد الجمعية، ترأس أومليل «المنظمة المغربية لحقوق الإنسان» (1990ــــ 1993). ثم صار رئيساً لـ«المنظمة العربية لحقوق الإنسان» في القاهرة (1997 ــــ 1998).
وبعد أربعين عاماً من النضال، نضجت المعارضة، كما السلطة، لعقد توافق تاريخي في الحياة السياسية المغربية. أُطلق سراح المعتقلين. عاد المنفيون. وُضع دستور جديد. عُيِّن عبد الرحمن اليوسفي رئيساً للوزراء. وأحد تجليات هذا التوافق تمثل في دخول عدد من رموز المعارضة إلى المشهد السياسي الرسمي. هكذا صار أومليل سفيراً في القاهرة عام 2001، وبعدها في بيروت عام 2004 حيث لا يزال إلى اليوم.
لا يجد أومليل تعارضاً بين مشاغله كمثقّف، وعمله كدبلوماسي. يقول إنّه غالباً ما يواجه هذا السؤال في المقابلات التي تُجرى معه، وأيضاً في الأحاديث اليومية. يُعيد أومليل هذا الأمر إلى تصوّر شائع بأن المثقف العربي كائن كامل الطهارة. إنّه يشبه الفتاة الشرقية الخائفة على بكارتها، ويظن أنّ أي تسوية مع النظام ستخدش هذه الطهارة. أومليل يرى أن المعارضة ليست مسألة أبدية. إذا سمحت الظروف للمثقف بممارسة دوره فعليه ألا يمتنع عن ذلك. ويرى أن صورتنا عن المثقف لا تزال مشوبة بالكثير من الرومانسية: «العلاقة الصحيحة ممكنة بين الطرفين، وهي أن يجد صاحب القرار السياسي عند المثقف ما هو مضطر إلى الإفادة منه والاهتمام به. التسوية مع السلطة لا تعني أن يستجدي المثقف لنفسه كرسياً صغيراً يجلس عليه إلى جانب الحاكم... فيلتفت إليه الأخير، بين حين وآخر، كي يطلب مشورته. المسألة أن يكون هناك معرض للآراء والأفكار والطرق الأمثل، لتطبيقها في الحياة العامة. حين عيّنوني سفيراً، كانوا يعرفون من أنا. الوضع في المغرب تغيّر بحيث صار رجل مثلي لا يشعر بالحرج في موقعه الحالي. والدولة، من جانبها، لا تشعر بالحرج في كوني سفيراً لها».
بعيداً عن الثقافة والسياسة، يعترف أومليل بأنه فرح بتعيينه سفيراً في لبنان الذي لم يكن يجهله. يشير إلى المستوى الجيد للجامعات، وإلى الحياة الاجتماعية المميزة والمتنوعة، وإلى جمال الطبيعة. يؤكد أنّه لا يزال يقود سيارته بصحبة العائلة ليكتشف مناطق جديدة. يحب الشعر. لديه صداقات عدة مع شعراء مثل أدونيس وسعدي يوسف ومحمد بنيس، والراحلين عبد الوهاب البياتي ومحمود درويش... إضافة إلى ذلك، يهوى الموسيقى والطرب. وكان من سوء الطالع أن يبدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز/ يوليو ٢٠٠٦، في الليلة نفسها التي نظّم في داره تكريماً للمطرب وديع الصافي.
قبل المغادرة، نسأله ماذا يعني «أومليل»؟ فيردّ مبتسماً: «إنّها كلمة أمازيغية تعني الأبيض».


5 تواريخ

1979

ترأس «الجمعية المغربية
لحقوق الإنسان» لمدّة ستّ سنوات،
وأشرف على تحرير «التضامن» وSolidarité.

1997

رئيس «المنظمة العربية
لحقوق الإنسان» في القاهرة.
1992

الأمين العام لـ«منتدى
الفكر العربي» في عمّان.

1997

جائزة المغرب للكتاب.

2004

سفير المغرب في لبنان