بيار أبي صعبهناك في الغرب الفرنسي، في قلب منطقة Bretagne التي تعتد بخصوصيتها الثقافيّة والألسنيّة بين شواطئ المحيط الأطلسي وبحر المانش، مدينة صغيرة اسمها دوارنينيه، لا يتعدّى عدد سكّانها الخمسة عشر ألفاً. مدينة صيّادين، مشهورة بمصانع السردين، وحركتها العمّاليّة منذ عشرينيات القرن الماضي، وتربطها علاقة توأمة بمخيّم الرشيديّة للّاجئين الفلسطينيين. هذه الأيّام توجّه Douarnenez تحيّة خاصة إلى لبنان، من خلال مهرجانها السينمائي المعروف الذي يقدّم برنامجاً غنيّاً ومنوّعاًً يحمل بصمات معدّيه وحساسيّتهم ومشاغلهم ومشاهداتهم، جامعاً بين السينما والأدب وفنّ الطبخ والموسيقى... وهذه التجربة في تعاطي شريك أوروبي مع السينما اللبنانيّة، بل في التعامل مع الواقع اللبناني الشائك لمحاولة فهمه من خارج الأحكام المسبقة، إنما تمثّل سابقة مهمّة، ونكاد نكتب نادرة، في هذا الزمن القائم على الاختزال الايديولوجي والتوظيف السياسي لكل المبادرات الثقافيّة. لقد اعتدنا تظاهرات تكريم للفنّ اللبناني في الغرب، لا تخدم إلا مصالح منظميها ممن يملكون غالباً معاييرهم الجماليّة، ونظرتهم المسبّقة إلى طبيعة الصراع في المنطقة.
أما «دوارنينيه»، فحكاية أخرى. قام المنظّمون طوال أشهر بأبحاث ميدانيّة، شاهدوا عشرات الأشرطة والوثائق، قرأوا ما تيسّر من المراجع. في بيروت التقوا فنانين ومثقفين وباحثين، وأصغوا بفضول نقدي إلى التحليلات المتناقضة أكثر الأحيان. ثم حاولوا الإحاطة ــــ قدر الإمكان ــــ بهذا الواقع المعقّد، باحثين فيه عن أصداء لتساؤلاتهم الشخصيّة حول الهويّة والتعايش والتعددية وحقوق الجماعات المهمّشة. والنتيجة مذهلة بقدرتها على التأليف والإنصاف: على البرنامج عشرات الأفلام والتجارب واللقاءات، المختارة بعناية لنقل المشهد المركّب إلى جمهور متطلّب، يأتي من المنطقة كلّها لاكتشاف «سينمات الشعوب».
«مهرجان دوارنينيه» الذي تأسس عام ١٩٧٨ على يد مجموعة من هواة السينما المسكونين بهواجس الخصوصيّة الثقافيّة، تطرح فلسفته صيغة بديلة لما يسمّى حوار الثقافات وتفاعلها. فقد قدّم، على امتداد ثلاثين سنة، حركات سينمائيّة كثيرة، وشعوباً تكافح من أجل شخصيّتها وحقوقها. إنّه تجسيد مدهش، بعيداً عن مركزيّة باريس، لمشروع الدفاع عن التنوّع والتعدّديّة ومرجعيّة الأطراف... مشروع يعيد إلى الثقافة وظيفتها: إلقاء نظرة «مختلفة» (ونقديّة) على العالم.