محمد بنعزيز *يبلغ معدل توزيع الصحف في المغرب 13 نسخة لكل ألف مواطن، مقابل 55 في عدد من الدول العربية. ومع أن المغرب أكثر تقدماً في مجال الحريات العامة حسب ما يشاع، تعلن بعض الصحف أرقام السّحب ولا تذكر المبيعات، ويتجاهل البعض الآخر الرقمين معاً. لكن الحقيقة لا تخفى، فقد انخفض توزيع الصحف من 300 ألف نسخة يومياً سنة 2004 إلى 250 ألف سنة 2005. بالسؤال عن تراجع جريدة «الاتحاد» وقد كانت الأكثر مبيعاً، قال مديرها السابق محمد اليازغي إن «التراجع مسّ العديد من الصحف، وهناك مشكلة في بلادنا، إذ لا يوازي حجم القراء عدد السكان، فنحن ثلاثون مليون فرد، لا يعقل أن يكون العدد الإجمالي لقراء كل الصحف هو ثلاثمئة ألف شخص. المشكلة مطروحة، كيف يمكن كسب قراء جدد وتوسيع دائرتهم؟ وهذا مطروح على الصحافة كلها لا صحافة الاتحاد الاشتراكي». في مكتبات المغرب 333 مقعداً لكل مليون نسمة. «شعب لا يقرأ» تعني شعباً لا يفهم، هذا ما يتضح رغم الألم الذي يسببه هذا الاستنتاج!
كيف يمكن كسب قراء جدد؟ هناك عوائق سوسيو ـــ اقتصادية بنيوية في المغرب، حصرها جمال ناجي في الأمية، والازدواجية اللغوية للنخب، وانحسار السوق الإعلانية، ومحدودية وسائل التوزيع وهشاشتها، وضعف القدرة الشرائية للمواطن. لكن هناك عوائق في الصحف نفسها، على صعيد مهنيتها، على صعيد الخط التحريري، ويمكن إجمال تلك العوائق بما يأتي:
1ـــ فقر المادة الإعلامية في الصحف بسبب صعوبة الوصول إلى المعلومات المحلية. لا مكاتب اتصال في الإدارات، ونادرة هي النشرات الإخبارية لدى المؤسسات العمومية، وهناك منصب الناطق الرسمي لدى الحكومة فقط، وما زالت السياسة تمارس في المغرب كعمل سري، كما يخشى أصحاب السلطة أن يضعفهم كشف المعلومات، لذا يبخلون بها على الصحافي. النتيجة هي أن المواطن يعرف ما يقع في الخارج أكثر مما يعرف ما يقع في بلده.
2ـــ لحل المشكلة السابقة، يُلجأ إلى الإثارة بإبراز عناوين ضخمة، رنانة ومضللة، وتحتها مادة إعلامية بائسة، وذلك تحت شعار «تجرّأ أكثر لتبيع أفضل». تستهوي الإثارة أنصاف المتعلمين فقط، وهم أغلبية القراء. المتعلمون من مستوى عال يقرأون صحفاً أجنبية.
3ـــ تشابه الخط التحريري للكثير من الجرائد. وقد بدأت صحف عدة تقلّد جريدة «الأحداث المغربية»، مثل «العلَم» و«التجديد»، ويتجلى هذا التقليد في نشر الرسائل الشخصية وأخبار الحب والمشكلات النفسية والجنسية...
4ـــ الاعتماد المكثف على وكالات الأنباء، لذا تهيمن القصاصات المتشابهة المأخوذة عن وكالات الأنباء، والنتيجة هي عدم ظهور خصوصيات الخط التحريري للجريدة على صفحاتها.
5ـــ التركيز على الأحداث اليومية واقتناص النوادر حتى إن لم تكن دالة. المساحة المخصصة للجريمة أضعاف نظيرتها المخصصة للثقافة.
6ـــ الإعلان يصوغ الخط التحريري. حالياً يُخصخص المشهد الصحفي على مراحل. صحف الحكومة أفلست، صحف الأحزاب تقل، أما صحف المقاولات فتتزايد، وهي صحف تعتمد على تمويل ذاتي، لذا ترى الإعلان وسيلة أساسية للتمويل. وهذا يمنح المعلنين سلطة على الخط التحريري. كمثال، لا تستطيع الصحف انتقاد غلاء الاتصالات الهاتفية، وقد كتب أحد الصحافيين أنه يسمح له بالحديث عن الملك ولكن يمنع من ذكر المدير العام لشركة للاتصالات!
7ـــ التملق السياسي، وتكون بعض الصحف وسائل لتنفيذه. كنموذج، كتب أحد الصحافيين «والذي لا يغرب عن البال أن السيد وزير الداخلية رجل تربية بحكم أستاذيته، يكون من غير شك قد أصاب حظه من علم النفس الفردي والجماعي. فهو يعرف بداهة ردود فعل الأفراد عندما تميزهم المعاملات، ويحسون بالغبن وجور القرارات».
8ـــ ضعف الموضوعية والحياد وظهور ملامح شبهة انعدام الاستقلالية، بحيث تفوح رائحة الموقف السياسي من صياغة الخبر. ويظهر ذلك بوضوح في عناوين جريدة «الأحداث» عن الإسلاميين.
9ـــ ندرة الصحافي المكوَّن والمتخصص في قضايا تركز عليها الصحف المغربية (الصحراء، الإسلاميين، العلاقات مع الجزائر وإسبانيا وفرنسا، الوضع السياسي والاجتماعي...). جلّ المحرّرين هواة أدب انتقلوا إلى الصحافة أو سياسيون تعاطوا الكتابة بشكل متأخر.
10ــ بُعد الصحافة المغربية عن الجامعيين، فقلة من هؤلاء يساهمون في النقاش العمومي. وبسبب هذا التباعد، لا تملك الصحف المغربية إشعاعاً خارجياً.
11ـــ قلة مقالات الرأي وضعف مستوى التحليل السياسي، مما يزهد القارئ في الجريدة ما دام قد سمع الخبر في الإذاعة أو التلفزة، ويرى أن الجريدة لن تضيف له شيئاً.
12ـــ يساهم الانقسام اللغوي في ضعف فضاء النقاش العمومي، فالصحف المغربية تصدر بالعربية والفرنسية والأمازيغية، وهذا يخلق فضاءات لغوية مفصولة لا تسمح بالتواصل بين النخب.
13ـــ النميمة السياسية: توزع أسبوعية «الأسبوع» 80 ألف نسخة، وهي جريدة أقرب إلى النميمة منها إلى تعريف الصحافة.
14ـــ ضعف صدقية الصحافة: عبد الله ساعف، وهو أستاذ جامعي كان وزيراً للثقافة، كان يتابع الحوارات الدائرة أثناء الإعداد للتناوب السياسي في 1998 على مستويين، مستوى اتصاله الشخصي بالقيادات السياسية، ومستوى مطالعة الصحف، خلص إلى نتيجة خطيرة: «من قراءة ما دوّنتُه حينها من ملاحظات، يتضح شيء واحد على الأقل، هو أن الحياة السياسية، كما تنقلها الصحافة، بعيدة كل البعد عما هي عليه في الواقع. وأغرب ما في الأمر أنه لم يُكتب شيء في ما بعد عن الأحداث الحقيقية».
يتضح أن الخلل في السلعة لا في المشتري فقط، في الصحف لا في القراء. فكيف السبيل لتجاوز هذا الوضع؟ الصحافة مهنة وصناعة ثقيلة، وهذه نقطة ضعف الصحافة المغربية، فهي تعاني انخفاض المبيعات وقلة التمويل وضعف الإعلان (لا تتجاوز نفقة الإعلان ستة دولارات للفرد المغربي مقابل 75 في الشرق الأوسط و500 في الولايات المتحدة). وقد دخل الرأسمال الأجنبي حقل الإعلام المغربي، فاشترى السعودي عثمان العمير مجموعة «ماروك سوار»، وأحدث ذلك ثورة في جريدتها «الصحراء المغربية»، فصارت أكثر تنويعاً، وفيها صفحتا رأي بتنسيق مع جرائد «الاتحاد» الإماراتية و«لوس أنجلس تايمز» و«واشنطن بوست» الأميركيتين.
* صحافي مغربي