يتجاوز العمر عتبة الستين ويدخل الرجل في مرحلة تفرض عليه أسلوب حياةٍ مختلفاً. فبعد أن تنخفض ساعات العمل أو تنتهي نتيجة عجز الجسد عن تحمّل أعباءٍ جديدة، يصبح التفتيش عن حياة بديلة أمراً ملحّاً. قلّة يفكرون بزواجٍ ثانٍ يعيد إليهم شبابهم، والحديث في الموضوع يبقى طرفةً تتيح العبور إلى التساؤل عنالحياة الجديدة

محمد محسن
ترك النظام العسكري أثره في حياة أبو ماهر، فتحوّلت فترة ما بعد التقاعد إلى برنامج «مضبوط بالدقيقة». يبدأ نهاره عند آذان الصبح، فيصلّي ويمارس شعائر دينية إلى أن تحين الساعة السادسة صباحاً، ينتقل بعدها إلى ارتشاف فنجان قهوة حول «الزرّيعة» على شرفة المنزل. يستمع إلى أخبار اليوم، ويتابع عناوين الصحف، فيحين موعد الفطور مع «الحاجّة». يتحدّث أبو ماهر عن تحوّل نحو التديّن، شعر به منذ تقاعد من خدمته العسكرية، فـ«ازداد اهتمامي بالدين، بعدما شعرت باقتراب نهاية حياتي»، يقول مبتسماً.
يظهر التحوّل نحو الدين في حياته الجديدة بأشكال عديدة، تعبّر عنها زياراته المتكرّرة للأقارب من باب «صلة الرحم». أما الشعائر المستحبّة و«الواجبة» فهي أيضاً تعبّر عن ارتباطه المتزايد بالروحانيّات، إذ تستهويه السياحة الدينيّة، ولا تمرّ سنة دون أن يقوم بالعمرة وزيارة المقامات المقدسة في إيران، ويتحدّث عن خلاف مع أبنائه الذين يغطّون تكاليف سياحته الدينية، بسبب رغبته في زيارة العراق فيما هم يعارضون نتيجة الأوضاع غير المستقرّة هناك، يبتسم وهو يردد: «يأتيكم الموت بغتةًً وأنتم لا تشعرون».
يوحي كلام أبو ماهر حين يتحدّث عن حياته الزوجية بأنها تراجعت بعض الشيء. فزوجته «كبرت في السن واهتماماتها تختلف عن اهتماماتي»، فأصبحت حياته أشبه بنمط علاقاتٍ «أوروبي» يتجلّى في بيت جنوبي.
إلى جانب التديّن، ازداد ارتباط ابن الـ65 عاماً بالقرية، فاتّكل على جزء من تعويضه لتجديد منزله هناك، وأبقى جزءاً «لغدرات الزمان». يخصص يومين أسبوعياً في القرية للجلوس مع من «بقي من الجيران والأصدقاء».
تزول ملامح حياة أبو ماهر عند الحديث مع أبي كمال. فالأخير لم يسمح له المرض بمزاولة حياة طبيعية، بل كتب عليه التنقّل بين عيادات الأطباء والصيدليات ومكاتب وزارة الصحة. ترك سيارة الأجرة وجلس في البيت، ويقول إنه طرح على أبنائه فكرة مساعدته لاستئجار دكّان صغير «يسلّيني وأقضي فيه وقتي»، لكن الجواب كان سلبياً، «فالعين بصيرة واليد قصيرة».
يدفعه ضيق حالة أبنائه الاقتصادية للشعور بأنه «عالة» على الدائرة المحيطة به، وخصوصاً أنهم يجرّبون قدر المستطاع توفير مبلغ متواضع من المال، ليسعفه في شراء «قميص وبنطلون أو حفلة مشاوي متواضعة على النهر»، عدا عن حِقَن الأنسولين. أما زوجته، رغم ما تبديه من تقدير لوضعه، فإنها تنفعل في بعض الأحيان من «النق» الذي يمارسه. تقدّم له أعذاراً أهمها أن وقته يضيع بين أربعة جدران، وزيارة للأصدقاء أو للأقارب في الأسبوع لا تكفي للترويح عن النفس.
تخلو حياة أبو كمال من عناصر «جذابة» تشدّه إليها بدلاً من الماضي. حنينٌ جرّ الأخير إلى التفكير بمشروع غريب عمّن هو في سنّه، وهو التعلّم على الكمبيوتر وكيفية استعمال «الإنترنت»، ويؤكد أن «الأمر مش بإيدي، بس في نيّة».
أما بالنسبة إلى أبي محمد (65 سنة)، فحدود عمله لم تنته عند مغادرة مكتب المحاسبة في التعاونيات التي عمل فيها. أسهم جزء من «تحويشة العمر»، كما يقول، في شراء محلّ صغير، في منطقة المريجة، للمياه المعبّأة. يشير إلى محمد، العامل البنغالي الذي يوصل المياه إلى بيوت الجيران، ليقول إنه مكتف بممارسة هواية التجارة والحسابات فقط. يكفيه المكوث أمام المحل حتى وقت الظهيرة، يراقب الشارع ويعيش حياةً جعلته منذ بدايتها أحد «فعاليات الحي».
يمثّل أبو محمد حالة مجموعة من كبار السنّ الذين تكفيهم صفة العمل حتى يشعروا بالطمأنينة. اللحظات التي يدخل فيها إلى البيت بعد يوم من العمل تجعله واثقاً «برجولته»، ويعلّل ذلك بالقول إنّه «منذ تزوّج الأولاد، أعيش أنا والحاجّة، وما دمت قادراً على العمل، فلماذا آخذ تعبهم؟!». يصرخ في وجه طفل رمى الكرة أمام المحل «ولاد مزعجين، يلعن أبوهن»، ويكمل حديثه عن حياته البديلة، فيريح نفسه من عناء الشرح ويقسّمها إلى قسمين: «شغل وراحة ما تغيّر عليّ شي، بس الشغل صار مريح أكثر، وهيدا حق العمر»، وخصوصاً أنه يقضي «عطلته الرسميّة»، يومي السبت والأحد، في القرية. نمط يكرّره أبو محمد أسبوعياً مع بعض التبديلات التي تفرضها الظروف الطارئة كالـ«الفحوصات أو المناسبات والواجبات».
للمقاهي حصتّها الواضحة في حياتهم، فيتوزّع كبار السن على كراسيها، مجموعات تحتفظ الواحدة بجوّها بعيداً عن الأخرى. أبو جمال هو أحد أفراد هذه المجموعات. يقضي نهاره من الصباح حتى الظهر في أحد مقاهي بيروت، ليقتطع وقتاً من الظهيرة للغداء والقيلولة، على أن يعاود «نشاطه» داخل المقهى. أصبح محترفاً في «الليخة» وتقنياتها، يأخذ نفساً من نرجيلة التنباك المخصصة له، ويتحدّث عن نفسه منذ أن تقاعد من وظيفته إلى اليوم. يعبّر أبو جمال عن طبقة من المالكين الذين يعتاشون من أملاكهم، و«الحمد لله مش بحاجة حدا». إذ إنّه يستعين بإيجار بيتين ومحلّين لتلبية مصاريفه التي تتراوح بين الأدوية وجلسات المقهى التي يدفع حسابها كل آخر شهر.
يعيش أبو جمال بمفرده مع زوجته، فالولد الوحيد يكمل دراسته في الخارج. يشبّه بيته بالفندق، إذ إنه فقط «للأكل والنوم والزيارات»، فجوّه ينحصر بين رفاقه في المقهى، حيث تدور «برتيات الليخة» وأحاديث السياسة، وكلّ يطرح تحليلاً انطلاقاً من «أيام النكسة والنكبة والفترات الصعبة التي عشناها». في المقهى حيث الكثير من كبار السن، يشعر الزائر بأنّه في مجتمع محدّد المصطلحات والأوصاف والصفات. خصائص ركيزتها أنّ الإنسان يجب أن يعيش الحياة حتى لحظاتها الأخيرة.