ربيع بركات *بين ثورة الورود وثورة الأرز أوجه تشابه صارخة، كأني بهما حيّكتا بالمغزل نفسه، واصطُنِعتا وخطَّطت لهما الأدمغة نفسها أو الفكر نفسه، وطبخت تفاصيلهما في الورشة البحثية والدراسية نفسها. ورغم الاختلاف في الشكل وتفاصيل السيناريو والمعطيات التاريخية والجيوساسية والاستراتيجية، إلا أن أوجه التشابه فاقعة، واحتمالات النجاح والفشل متماثلة. معطيات وأسباب موضوعية تدفع للاعتقاد بأن الثورتين محكومتان حكماً بالاندثار، وما يجري اليوم في جورجيا هو دليل قطعي على صحة هذه الفرضية.
1ـــ الدعم الخارجي لكليهما محكوم بحدود موضوعية أو إرادية، تجعل منه غير كاف لبقائهما متّقدتين، ما يحكم بقصور إمكان مقاومة هاتين الحركتين للزمن واندثارهما.
ففي الحالة اللبنانية، هناك ظروف موضوعية تحكم مدى حجم الدعم الأميركي. النظام الأميركي أعطى كلّ ما بإمكانه إعطاؤه: دعم دبلوماسي وزيارات لمسؤولين رفيعين، دعم «المجتمع الدولي»، قرارات في مجلس الأمن، تأليب الرأي العام الدولي عبر حملات وسائل الإعلام الدولية الموجهة ضد أعداء الجبهة، والتغطية المكثفة للنشاطات الفولكلورية المثبتة لديموقراطية ثورة الأرز... لكن كل هذا الجهد على أهميته غير كاف لمواجهة قوة الأخصام وخبرتهم العسكرية المدعومة من «العدو» السوري.
إذاً لا بد من الدعم الأميركي المسلّح للنصر، وهنا مكمن الوجع. فالدعم العسكري الأميركي المباشر غير ممكن لأسباب خاصة بأميركا، فالجبهات المتعددة المفتوحة في آن واحد في أفغانستان والعراق، وكلفة المواجهة مع سوريا وتبعاتها الإيرانية، تخفف من حماسة فتح جبهة جديدة.
أما الدعم الأميركي غير المباشر فتحكمه تعقيدات تحدد حجمه: منطق ثورة الأرز محكوم بمتناقضات، وإن كانت في الظاهر، فهي معادية لسوريا وحليفة للولايات المتحدة، لكنها في الوقت نفسه معادية للطفل المدلل والحليف الدائم للولايات المتحدة أي إسرائيل. ما يحتّم محدودية في الدعم الأميركي نظراً لحساسية إسرائيل منه. فجبهة ثورة الأرز مؤلّفة من فسيفساء، درجة عدائها (الظاهري) لإسرائيل متباينة. وإذا كانت التيارات الأقليّة في الجبهة منسجمة في موقفها من إسرائيل والولايات المتحدة، فإن التيارين الأصليين والأبرز فيها يعيشان حالة سكيزوفرينيا حادة: صداقة مع النظام الأميركي وعداء مع إسرائيل. هذه السكيزوفرينيا ناتجة من حاجة هذين التيارين لجماهير لها وعي تاريخي عدائي مع إسرائيل، وتؤمّن لهذه التيارات شرعيتها، ولكنها غير كافية لتمكين جبهة الأرز من الحكم (الغاية النهائية والمبتغى لهذا التجمع). وإن كان ممكناً خلق وعي زائف لدى هذه الجماهير عبر قصف إعلامي وبروباغندا مركزّة تمكنّها من بلع هذا المنطق المتناقض وقبوله، فليس من الممكن إقناع إسرائيل بذلك التظاهر وبأن الأمر من مقتضيات الحاجة الآنية حصراً، وخصوصاً عندما ترى لجوء هذه التيارات إلى قوّات السلف الصالح (القنبلة الموقوتة) نشداً للدعم العسكري، وعدم تمكنها من تقديم الضمانات الكافية للضبط والسيطرة على الدعم العسكري (تسليح الجيش اللبناني مثلاً)، فتراها تعارض التسليح النوعي لثورة الأرز ولأجهزتها الأمنية و«تشكيلاتها العسكرية» (الشركات الأمنية).
بالنسبة لثورة ساكاشفيلي في جورجيا، قدمت الولايات المتحدة ما بإمكانها من دعم دبلوماسي وزيارات لمسؤولين رفيعين ودعم «المجتمع الدولي»، ومحاولة إقناع حلف الأطلسي بضم جورجيا إلى قمة الحلف الأخيرة في بوخارست، وتمويل حملات وسائل الإعلام الدولية وافتتاحيات كبرى الجرائد في عواصم القرار لكسب تأييد الرأي العام الدولي.
أما على الصعيد العسكري، وهو دائماً بيت القصيد، فالمعطيات الموضوعية مختلفة بعض الشيء؛ فروسيا عدوّ جورجيا هي أقوى بما لا يقاس من عدوّ ثورة الأرز، لذلك فإذا كان التدخل الأميركي المباشر غير قابل للتصوّر حتى، فبغضّ النظر عن حاجة الولايات المتحدة لعلاقة تعاون جيدة مع روسيا في ملفات دولية عديدة (إقليم كوسوفو، الدرع الصاروخية الأميركية، الملف النووي الإيراني)، فإن انجرار الولايات المتحدة إلى صدام مباشر مع روسيا يقع خارج أي تفكير مهما كان ساذجاً أو شريراً حالياً، إذ يهدد بما لا تحمد عقباه، أي حرب عالمية نووية جديدة.
لذلك فإن أقصى ما استطاعت الولايات المتحدة تقديمه في الأزمة الحالية هو تكرار تنديدها، كما جاء على لسان جورج بوش.
2ـــ كلتاهما تقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا. الدول الصغرى محكومة بعلاقات جيدة (لا باستتباع) مع جيرانها من الدول الكبرى، وكل فعل على خلاف ذلك هو خبل وانتحار سياسي. الهواجس والمصالح السورية أو الروسية في الأمن والاقتصاد هي ثابتة بل حتى مشروعة (دون هرس حقوق الجيران)، فهي في عقر الدار غير قابلة للتغير بحكم التاريخ والجغرافيا والأحداث، لكن التحالفات الأميركية متغيّرة تبعاً لمصالحها، فتحالف أميركا مع أطراف الثورتين عارض مرتبط بأهواء المصلحة الأميركية، قابل للاستهلاك في أي لحظة (خَبِرَ حلفاء أميركا من اللبنانيين في الثمانينيات ذلك بوضوح!). فبناءً على قاعدة أنه في السياسة لا أحلاف دائمة بل مصالح دائمة، تحالف أميركا أو تهادن دائماً من يحقق لها مصالحها.
في الحالة اللبنانية، بلد صغير محدود اقتصادياً كلبنان يظهر على الخارطة حين يختلف القوم، لذلك فإن أي مفاوضات سورية ـــ إسرائيلية أو أميركية ـــ إيرانية تجعل من ثورة الأرز يتيمة. وفي الحالة الجورجية حاجة أميركا لروسيا لا لبس فيها، وكلّ الجهود التي يقوم بها سكاشفيلي لخطب الودّ الأميركي، لن تغيّر من واقع أن جورجيا دولة صغيرة محدودة الأثر الاستراتيجي والاقتصادي، لا يمكنها بأي حال تعويض حاجة الولايات المتحدة للجار اللدود.
3ـــ كلفة التحالف الهش مع أميركا باهظ، فالمقابل الواجب دفعه كارثي. في الحالة الجورجية، يبدو أن أوان الدفع قد حان. إذ لا تقبل الخطوة الانتحارية الجورجية في اجتياح إقليم أوسيتيا إلا واحداً من تفسيرين، فإما أن ساكاشفيلي شخص ساذج ظنّ أنه بمجرد دخول روسيا المعركة ستتهافت عليه القوات الدولية للدعم والتأييد. وإما أن الدعم الذي «وُعد به» (وهو الأمر المرجّح) لم يتحقّق نظراً لعنف ردّ الفعل الروسي، إذ من غير المعقول أن يقدم ساكاشفيلي على هذا الأمر من دون رعاية أو حتى إيعاز من الولايات المتحدة. فلواشنطن مصلحة في الاجتياح، فجورجيا الأطلسية تمثّل حاجة اقتصادية (نفطية) وأمنية في مهمة للدرع الصاروخية. فلا يستبعد أن تكون واشنطن قد طلبت من جورجيا اختبار الرد الروسي، وذلك على سبيل القراءة الاستباقية لمدى الردّ الروسي في ملفات شائكة أخرى، مثل إقامة الدرع الصاروخية في بولندا وتشيكيا، بغض النظر عن تبعات هذا الردّ وما قد ينتج منه من خراب البلاد والعباد.
أما في لبنان، فإن ما شهده لبنان من فراغ واضمحلال لمؤسسات الدولة، من فوضى سياسية وأمنية جرّت البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، وأدت في ما أدّت إلى أحداث أيّار الماضية، ما هو إلاّ القسط الأول الذي دُفع.
أحداث أيّار أخّرت دفع القسط الثاني المستحق، لا شيء في الأفق ينبئ بأن الولايات المتحدة قد أسقطت الدَّين، والظاهر أنّ الدفع قد أجّل إلى آذار 2009.
لعلّ سياسيّينا الموعودين بدعم عابر للقارات والقافزين فوق معطيات التاريخ والجغرافيا يتّعظون من التجربة الجورجية ويستيقظون، ما قد يجنّبنا سيناريوهات مستقبلية كارثية تتعارض «حتماً» مع «حب الحياة».
* محام وباحث سياسي