مصطفى بسيوني *في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007، جلس أعضاء اللجنة العليا للإضراب في قطاع الضرائب العقارية (55 ألف شخص) إلى طاولة المفاوضات مع وزير المال المصري يوسف بطرس غالي، لإبرام الاتفاق الذي يلبي مطالب موظفي الضرائب العقارية وينهي إضرابهم الذي علقوه قبل ذلك بأسبوعين لانتظار نتائج المفاوضات. ساعتها كان موظفو الضرائب العقارية قد أكملوا 10 أيام من الاعتصام أمام مبنى مجلس الوزراء للمطالبة بمساواتهم في الدخل بنظرائهم في المصلحة، إذ إنهم كانوا يتبعون الإدارة المحلية. المكاسب التي تحققت من الاعتصام الذي سبقته مسيرة طويلة من النضال كانت ارتفاع دخل الموظف في الضرائب العقارية بنسبة 325%. مع ذلك، فإن الزيادة في الدخل لم تكن أعظم المكاسب التي حققها نضال الموظفين. فالمفاجأة التي أطلقتها اللجنة العليا للإضراب بعد انتهاء المفاوضات وتحقيق المكاسب، وبالتالي إنهاء الإضراب والاعتصام، كانت عدم حل نفسها واستمرارها كمشروع لنقابة مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي الذي اتخذ موقفاً معادياً للموظفين أثناء الإضراب، وحاول كسره طوال الوقت، حتى إن الموظفين رفضوا وجود رئيس النقابة العامة التابعين لها في المفاوضات مع وزير المالية، وأصروا على خروجه، وهو ما كان بالفعل.
هذه الخطوة من جانب الموظفين، تعود بفكرة النقابة لأصولها الأولى، إذ كانت النقابات تتأسس على خلفية نضال مطلبي، لا بقرارات إدارية، سواء في مصر أو في العالم.
المبادرة التي أطلقتها اللجنة العليا للإضراب في الضرائب العقارية كانت مدفوعة بنشوة النصر المتحقق، ولم تؤخذ بالجدية الكافية، وخاصة أن مبادرات سابقة للانسحاب من التنظيم النقابي الرسمي لم تحظَ بالنجاح، ومحاولات أخرى افتقدت لأبسط مقومات الجدية.
ولكن ما جرى بعد ذلك أن اللجنة العليا للإضراب أدت الدور الأساسي في التفاوض مع المسؤولين على قواعد ولوائح العمل وحقوق الموظفين، كذلك فإن رأياً عاماً بين موظفي الضرائب العقارية أخذ ينمو ويتزايد في اتجاه بناء نقابة مستقلة عن التنظيم الرسمي. إن انتقال موظفي الضرائب العقارية من النضال المطلبي المباشر إلى النضال من أجل نقابة مستقلة ومعبرة عنهم بحق، هو مثل فريد على تطور النضال من المطالب المباشرة إلى الحقوق النقابية والديموقراطية.
فمشروع بناء النقابة المستقلة في حدّ ذاته يُعَدّ نقطة تحول هامة في مسار الحركة العمالية، ولكن خروج هذا المشروع من بين موظفي الضرائب العقارية، وفي هذا التوقيت بالذات، يعطي المشروع أبعاداً أخرى في غاية الأهمية.
فمن حيث التوقيت، بالإضافة إلى أنه تزامن مع انتصار الإضراب، إلا أنه جاء أيضاً والتنظيم النقابي الرسمي في أضعف حالاته. فمنذ انتهاء الانتخابات النقابية في شباط/ فبراير 2006، انتهت فترة الهدوء التي مرت بها الحركة العمالية، وانطلقت إضرابات تأبى التوقف إلى الآن، وهو ما وضع التنظيم النقابي الموالي للدولة والمدافع عن سياستها في مواجهة العمال. وقد دفع هذا العمال لتنظيم العديد من حملات سحب الثقة التي تجاهلتها الجهات الرسمية، وكانت أشهرها الحملة التي نظمها عمال غزل المحلة. كذلك يأتي مشروع النقابة المستقلة والتنظيم النقابي الرسمي يعاني هجوماً شديداً على المستوى الدولي. فقد رفضت عضويته في الاتحاد الدولي للعمال في شباط/ فبراير الماضي لعدم استيفائه شروط الاستقلال عن الدولة والشفافية والديموقراطية، كذلك واجه نقداً حاداً في مؤتمر منظمة العمل الدولية في جنيف في حزيران/ يونيو الماضي للأسباب نفسها.
والواقع أن التنظيم الرسمي الذي اعتمد دائماً على العضوية الورقية والإجبارية للعاملين في القطاع العام والحكومة، يعاني اختلالاً شديداً في نسبة العضوية وطبيعتها بسبب الخصخصة وتراجع نسبة العاملين في القطاع العام وتزايد نسبة عمال القطاع الخاص الذي يخلو تقريباً من النقابات. هذا بالإضافة إلى تصاعد الصراعات الداخلية في التنظيم الرسمي التي وصلت إلى حد تبادل الاتهامات بالفساد بين أعضائه علناً.
أما أهمية خروج مشروع النقابة المستقلة من بين موظفي الضرائب العقارية، فإنه يحمل أكثر من دلالة. أولاها أن حركة الموظفين كانت الأكثر تنظيماً وصبراً، وحققت أكبر انتصار وكانت في قطاع لم يعتد تنظيم إضرابات. ويكفي أن نعرف أن موظفي الضرائب العقارية الـ55 ألف ينتشرون على مدى الجمهورية، ولا يرتبط بعضهم ببعض طبيعياً من خلال العمل.
الحقيقة أن محاولة بناء نقابة مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي قد سبقتها ممارسة نقابية راقية، وعلى أعلى مستوى. فقد كُوِّنت اللجنة العليا للإضراب لتمثل ديموقراطياً كل المحافظات التي ينتشر فيها الموظفون. ونظمت اللجنة الإضراب وصاغت المطالب والتفاوض، في علاقة حية مع جمهور الموظفين ورجوع دائم لهم. وفي أكثر من مرة، رفض الموظفون اقتراحات للجنة، وتم التراجع عنها، نزولاً على رأي الأغلبية. إن محاولة بناء نقابة مستقلة ليست سوى محاولة لهيكلة وضع قائم بالفعل، وجلوس وزير المال إلى التفاوض أمام اللجنة العليا والرضوخ لمطالبها هو اعتراف ضمني بشرعية تلك اللجنة نقابياً، شرعية انتزعت بإضراب الموظفين لا بقانون النقابات.
هناك مغزى آخر هام لخروج هذا المشروع من بين موظفي الضرائب العقارية. فتبعية التنظيم النقابي بشكل عام للدولة يهدر استقلالية العمل النقابي، ولكن في حالة موظفي الدولة، هي مفارقة تبعث على السخرية. ففي هذه الحالة، فإن الدولة هي نفسها صاحب العمل وليست مجرد جهة إدارية. أي إن صاحب العمل يصبح مسيطراً على التنظيم النقابي، وهو وضع شاذ للغاية يفرغ العمل النقابي من أي قيمة.
إن معركة النقابة المستقلة التي يخوضها الآن موظفو الضرائب العقارية ليست فقط نقطة تحول هامة في الحركة العمالية، ولكن دلالتها السياسية لا تقل أهمية. فهي تعدّ تحولاً هاماً في معركة الديموقراطية، من شعارات عامة قاصرة على النخب، إلى معارك جماهيرية مباشرة لانتزاع حق تكوين منظمات شعبية حرة ومستقلة عن هيمنة الدولة. وإضافة إلى ذلك، فإنها تمثل تهديداً جدياً للمنظمة الجماهيرية الوحيدة التي تسيطر عليها الدولة، ألا وهي اتحاد العمال. فعلى الرغم من العضوية الورقية والوهمية، إلا أن رموز التنظيم النقابي كانوا يستطيعون مبايعة رئيس الجمهورية وتأييد سياسات الدولة، حتى المعادية للعمال، باسم العمال بصفة التنظيم النقابي «الممثل الشرعي الوحيد لعمال مصر».
ومن زمن ليس بعيداً، وقف رئيس اتحاد العمال في مجلس الشعب حسين مجاور يدافع عن قرارات الحكومة الأخيرة برفع الأسعار. كذلك أدى التنظيم النقابي الرسمي دوراً هاماً ودائماً في حشد جمهور في المناسبات السياسية المختلفة كالانتخابات والحملات الدعائية الرسمية، ما يجعل معركة استقلال النقابة التي من المنتظر أن تغري قطاعات عمالية أخرى، ما يهدد وجود التنظيم النقابي نفسه، معركة ليست بالسهلة، وخاصة مع وجود شريحة كبيرة من البيروقراطية النقابية داخل التنظيم النقابي الرسمي وخارجه، مستفيدة بمزايا كبيرة من الوضع النقابي الحالي، ما يجعلها مستعدة للدفاع عن هذا التنظيم حتى النهاية.
ليست معركة استقلال النقابة بالمعركة السهلة. ولكن معركة موظفي الضرائب العقارية المطلبية أيضاً لم تكن كذلك. لقد تحدى هؤلاء الموظفون الحكومة لمدة عشرة أيام وانتزعوا في النهاية حقهم. ومجرد اعتماد آليات النضال بدلاً من الفساد والرشوة المتاحة بالفعل لموظفي الضرائب العقارية بطولة في حد ذاتها، وينم أيضاً عن تطور كبير في الوعي الاجتماعي لهؤلاء الموظفين.
لقد كان نضال موظفي الضرائب العقارية في حد ذاته مفاجأة سرعان ما لحقت بها مفاجأة أكبر صنعها انتصارهم. ولكن معركة استقلال النقابة ستعني طي نصف قرن من تبعية النقابات للدولة وبداية تاريخ جديد للحركة العمالية.
* صحافي مصري