ياسين تملالي *كثُر الحديث في الجزائر في السنوات الأخيرة عن تفاقم «ظاهرة الهجرة السرية الأفريقية». وعكس ما يطبع هذا الحديث من مبالغة وتهويل، يؤكد تقرير أعدّته في 2007 «اللجنة الدولية للصداقة بين الشعوب» (CISP)، أن عدد المهاجرين السريين السود في هذا البلد قليل جداً مقارنة بعددهم في بلدان أخرى.
وعلى رأي أحد محرري هذا التقرير، الباحث محمد صايب موزات، فإنه لا يتعدّى عشرين ألف شخص، 40 في المئة منهم وفدوا إلى الجزائر بحثاً عن عمل، و40 في المئة آخرون همهم الرئيسي مغادرتها نحو أوروبا. أما العشرون في المئة الباقون، فتتباين تطلعاتهم، فمنهم من يرغب في الرجوع إلى بلده ولا سبيل له إلى ذلك، ومنهم من يحاول الحصول على بطاقة لجوء سياسي.
وبالرغم من أن الحل الأمثل لهذه المشكلة هو تسوية وضعية هؤلاء المهاجرين وتقنين إقامتهم في البلاد وإعطاؤهم الحق في العمل فيها، فإن السلطات فضّلت استبدال «استراتيجيتها الأفريقية» التقليدية بسياسة العصا الغليظة، إلى درجة أن هذه السياسة تبدو محض إذعان «لأوامر» الاتحاد الأوروبي إلى بلدان جنوب المتوسط بالعمل على الحدّ من الموجات البشرية القادمة نحوه من الجنوب.
وحسب الدراسة المذكورة، فإن عدد المهاجرين السريين الذين رحلوا من الجزائر بين سنتي 2001 و2006 بلغ نحو 5 آلاف سنوياً. ولإدراك أهمية هذا الرقم، نذكر فقط أن عدد الترحيلات التي تأمل حكومة نيكولا ساركوزي تحقيقها سنوياً هو عشرة آلاف.
وعدا تصلب السلطات في تعاملها مع المهاجرين السريين وعدم احترامها أدنى الاعتبارات الإنسانية في عمليات ترحيلهم، أول ما يلاحظ عند دراسة ظاهرة الهجرة السرية مساهمة الصحافة في تأجيج الخوف من هؤلاء «الغزاة الجدد» القادمين من أفريقيا السوداء، وخصوصاً من دول ساحل الصحراء. فمنذ سنوات، نقرأ في هذه الصحافة بانتظام مقالات تفيض بالارتياح عن طرد المئات منهم، وتحقيقات صحافية يتزاوج فيها الرثاء المصطنع «لظروف معيشتهم المزرية» بالإلحاح المَرَضي على «الأوبئة المدمّرة التي يحملونها معهم»، وخصوصاً وباء الإيدز.
وبالرغم من أن كاتبي هذه التحقيقات يلتقون مهاجرين سوداً حقيقيين، إلا أنهم يصوّرونهم ككائنات مريخية، تمثّل على الجزائريين خطراً مبهماً غير محدد المعالم. وهم يتناسون شيئاً في منتهى البساطة، وهو أن حركة الهجرة الحالية من الجنوب إلى الشمال امتداد لحركات موغلة في القدم، وأن نازحي القرن الواحد والعشرين يسلكون الطرق نفسها التي كان يسلكها أسلافهم باتجاه المتوسط، وكان يسلكها المغاربيون في الاتجاه المعاكس، قبل أن يرسم الاستعمار حدوداً وهمية بين «أفريقيا البيضاء» ومنطقة ساحل الصحراء الفقيرة.
ويبلغ خطاب بعض الصحف عما تسميه «التهديد الأفريقي» أحياناً حدّ الهوس الشوفيني، فيذكّرنا بأتعس ما كتب عن مسألة الهجرة في فرنسا. وكما كانت كتابات أقصى اليمين الفرنسي تصوّر المغاربيين خطراً همجياً على الحضارة الأوروبية ومجرمين محتملين، يلحّ هذا الخطاب على «الاختلاف الثقافي» بين الجزائريين والسود، وعلى تورّط الكثير من «الأفارقة» في شبكات الجريمة المنظمة، وخصوصاً تلك المختصة في الدعارة وتزوير الأوراق النقدية.
ولم يتورّع عدد كبير من المواطنين عن تبرير عمليات انتقام جماعي استهدفت هؤلاء، لا لشيء سوى أنهم أجانب، لا لشيء سوى لون بشرتهم، كتلك التي حدثت منذ سنوات في مدينة وهران، عندما اقتحم شباب أحد الأحياء فندقاً صغيراً يعيش فيه مهاجرون سود وأحرقوا أمتعتهم على قارعة الطريق.
هكذا إذاً، بدل أن تهتمّ الصحافة موضوعياً بظاهرة الهجرة السرية وتستكشف أسبابها وتحثّ السلطات على احترام المعايير الإنسانية في تعاملها مع المهاجرين، وخصوصاً أثناء عمليات الترحيل، عملت على صبّ المزيد من الزيت على النار. ذلك أن ابتداع «خطر أفريقي» على الجزائر البيضاء إحدى وسائل زيادة مقروئيّتها، مثله في ذلك مثل تهويل «خطر التبشير المسيحي» والمبالغة في الحديث عن «العصابات المختصة في اختطاف الأطفال».
وقد توّجت هذه الحملات الشوفينية في حزيران الماضي بقانون استلهم التشريعات الساركوزية في ميدان «مكافحة الهجرة اللاشرعية»، فجرّم إيواء المهاجرين السريين ومساعدتهم على دخول البلاد.
وما يثير الاستغراب في تعامل الصحافة مع ظاهرة الهجرة السرية، أن الجزائر، كونها بلداً مصدّراً للمهاجرين منذ بداية القرن الماضي، تعيش يومياً على وقع أخبار «الحراقة»، وهم شباب يغامرون بحياتهم في قوارب هشة تنطلق من شواطئ المدن الساحلية نحو إسبانيا وإيطاليا في رحلات محفوفة بالمخاطر.
أيُعقل ألا يرى «مختصو شؤون الهجرة» المهاجرين السود هم أيضا كحراقة، سئموا العيش في بلدانهم فجازفوا بأنفسهم باحثين عن حياة أفضل؟ أيعقل ألا يتساءلوا: إذا كان من حق الشباب الجزائري أن يحلم بـ«إلدورادو» الشمال، فلماذا يُحرم من الحلم به غيرهم من الأفارقة؟ ألمجرد أنهم سود؟
* صحافي جزائري