عصام نعمان *الأزمة سابقة لانتخاب الرئيس ميشال سليمان، والأزمة مستمرة بعد انتخابه. مردّ الأزمة غيابُ الدولة. ما لدى اللبنانيين ليس دولة بل نظام بمعنى آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان طبقةٍ سياسية متحكمة، قوامها متزعمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال، وآمرو أجهزة أمنية.
يختلف أركان الطبقة الواحدة حيناً، فتنشأ على هامش الحكومة معارضة. يتفق أركانها حيناً آخر فيغدو الجميع موالين تنتظمهم حكومة ائتلافية، يبالغ الأدب السياسي الزجلي اللبناني في توصيفها فيسميها حكومة وحدة وطنية.
أدرك الرئيس سليمان استمرار الأزمة وخطورتها، فقرر أن يدعو إلى مؤتمر وطني للحوار في القصر الجمهوري. من سيدعو الرئيس للمشاركة في المؤتمر وعلى أي أساس؟ وما الغاية من حوار المتحاورين؟
المعلومات المتوافرة محدودة. بعضها يشير إلى أن الرئيس سيوسّع دائرة المشاركة ولن يكتفي بدعوة أولئك الذين كان الرئيس نبيه بري قد دعاهم إلى طاولة الحوار. بعضها الآخر يشير إلى أن الغاية المتوخاة من الحوار هي التوصل إلى تفاهم في شأن القضايا التي لم يتسنَّ لطاولة الحوار السابقة أن تتوصل في شأنها إلى توافق، وفي مقدمها استراتيجياً الدفاع الوطني.
مهما تكن القضايا التي سيتناولها الحوار، فإن سؤالاً ينهض بإلحاح: ما المعيار الذي سيعتمده الرئيس سليمان في الدعوة إلى المشاركة في المؤتمر؟
قيل إنه يتوجب أن تكون للمدعوين صفة، رسمية أو عامة، وقدْر من الوزن السياسي. تردد في هذا السياق أنه، إلى أعضاء طاولة الحوار الـ14 السابقة، سيصار إلى دعوة أعضاء مجلس الوزراء، ورؤساء الجمهورية والمجلس والحكومة السابقين.
صحيح أن للرؤساء السابقين خبرة تكوّنت لديهم من ممارسة السلطة، وأنه يُستحسن الإفادة منها، على الأقل لعدم تكرار الأخطاء التي كانوا وقعوا فيها، لكن ماذا تراها تكون الفائدة من دعوة الوزراء؟ إذا كان المعيار هو الصفة التمثيلية، فإنهم ممثلون برؤساء الكتل المدعوين. أما إذا كانت الغاية هي الإفادة من خبراتهم، فإن هذه ضحلة على وجه العموم وقد يشوب معظمها الكثير من الأخطاء، ما يستوجب، إذا اقتضى الأمر، محاسبتهم في مجلس النواب لا في مؤتمر الحوار.
إن احتمال «تشكيل» مؤتمر الحوار من أركان الطبقة السياسية ووكلائهم والدائرين في أفلاكهم يكشف، في حال حصوله، حقيقة مؤلمة هي انخداع الرئيس سليمان ومساعديه بأهل النظام وبإمكان التزامهم مسألة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، رغم افتضاح أدوارهم السلبية في هذا المضمار منذ عهد الاستقلال حتى الوقت الحاضر.
ليس سليمان بالتأكيد من أعضاء الطبقة السياسية الفاسدة. وجوده في الجيش وفي قيادته حماه من سلوكية هذه الطبقة وشرورها. غير أن انتقاله إلى سدّة الرئاسة يعرّضه لأمراضها المعدية بسبب اضطراره إلى التعاطي مع بعض أفرادها بحكم الموقع والضرورة والمسؤولية.
لعلّ الحل يكمن في توسيع دائرة المشاركة في الحوار، فلا تبقى عضوية المؤتمر المنشود مقتصرة على أهل النظام، بل يحرص الداعون إليه، السيد الرئيس تحديداً، على مشاركة ممثلي القوى الوطنية والاجتماعية الحية ممن لم يأكلوا ويشربوا على موائد السلطة ولم يغرفوا من مغانمها، بحيث تكون لهؤلاء نسبة غالبة في عضوية المؤتمر لضمان نجاحه.
وينهض سؤال آخر ملحاح: ماذا يتوخّى الرئيس سليمان من مؤتمر الحوار؟
يخطئ من يظن أن الحوار يفضي بالضرورة إلى المصالحة. لقد عُقدت مؤتمرات كثيرة للحوار على امتداد تاريخ لبنان المعاصر وأزمته المزمنة، وكان آخرها في الدوحة، فما أنتجت مصالحة حقيقية ولا كانت لها مفاعيل مجزية. فمن قال إن المطلوب، بعد كل ما جرى من ارتكابات وانحرافات وفساد، أن تجري مصالحة بين الوطنيين والإصلاحيين من جهة، والمنحرفين والفاسدين من جهة أخرى؟
المطلوب من الحوار المصارحة (كدتُ أقول المحاسبة) لا المصالحة. المطلوب أن يقود رئيس البلاد مناقشة حية، موضوعية وهادفة لتشخيص الأزمة بكل أبعادها، والإحاطة بالعلاجات المقترحة للأمراض، السارية والمزمنة، كما تراها مختلف القوى المشاركة في مؤتمر الحوار. غير أنّ ذلك كله يقتضي أن يجري في سياق مناقشة البيان أو الورقة التي يكون الرئيس قد أعدّها وقدّمها إلى المؤتمر وتضمّنت رؤيته لواقع الأزمة وأبعادها وسبل معالجتها.
لعلّي لا أطلب الكثير من الرئيس سليمان إذا ما دعوته إلى أن تكون رؤيته لحل الأزمة نابعة من اتفاق الطائف، بما هو مدخل مقبول ومعترف به للتسوية التاريخية المنشودة بين قوى الاجتماع السياسي اللبناني. ولا أخالني إلاّ واقعياً وجذرياً في آن واحد إذا ما طالبت الرئيس بأن يكون هدفه الأعلى خلال ولايته تطبيق أحكام الدستور غير المنفذة، لا سيما ما يتعلق منها بالإصلاحات، موضوع اتفاق الطائف، التي أصبحت جزءاً منه منذ إدخالها في متنه بموجب التعديلات الدستورية التي أُقرّت بتاريخ 21/9/1990، وأبرزها الأحكام الأساسية (المقدمة) والمواد 19 و22 و95 تحديداً. أليس تطبيق هذه الأحكام الدستورية هو جوهر «الاستراتيجية الوطنية لإعادة بناء الدولة العادلة القوية المطمئنة للجميع» التي دعا أخيراً السيد حسن نصر الله إلى مناقشتها في مؤتمر الحوار؟
* وزير سابق