يمتنع اللبنانيون عن ممارسة وظائف يرون أنّها «وضيعة»، فيملأ فراغها مستخدمون أجانب يأتون من مختلف البلدان التي يؤمّن فارق العملة فيها مستقبلهم. وكلما كانت الدولة أبعد، اطمأن صاحب الشركة التي تستقدمهم أكثر، فالإجازات تصبح أقل، وتبعد الفترات فيما بينها أكثر، بينما يعمل المستخدم بجدية وانضباط تفوق تلك التي يتمتع بها، أو لا يتمتع، القادم من البلدان المجاورة
رنا حايك
يعيش محمد، من التابعية البنغلادشية في لبنان منذ سبع سنوات. هنا، «المصاري أحسن، والشغل أحسن». لديه زوجة بنغلادشية وافته من بلاده لتعمل خادمة في البيوت اللبنانية، وطفل يرتاد الحضانة، يتحدث العربية بطلاقة ولا يفهم اللغة البنغلادشية.
كان محمد عاطلاً عن العمل في بلاده، فدلّه صديقه إلى لبنان. جاء طلباً لعمل لم يجده سوى بعد مرور عام على وجوده فيه. يزور بنغلادش مرة كل ثلاث سنوات حتى لا ينفق الكثير من المال الذي يدّخره ليعود نهائياً إلى بلاده بعد خمس سنوات من الآن كما يخطّط. فهو يريد أن يضمن مع عودته شقة ملكاً ومحلاً لبيع الملبوسات الجاهزة. ليحقق ذلك، يعيش محمد متفادياً المشاكل. لا أصدقاء لبنانيين له، فجيرانه سنة وشيعة لا يتعاطى مع أحد منهم «حتى لا يزعل الآخر». هكذا يفهم خصوصية المجتمع اللبناني وهكذا يتعامل معها. إلا أن اللبنانيين لا ينتظرون منه المبادرة، فأحياناً يبادرون هم، بمنتهى «اللطف»، حين ينادونه في الشارع: «إنت يا سريلانكا». وأحياناً يبالغون في اللطف ومحبة التواصل فيستخدمون أياديهم بمرح لسرقة ما جناه خلال النهار من تنظيف الزجاج ولمّ النفايات. ومع ذلك، لا يتهمهم بالعنصرية ولا بالفوقية، فهي مصطلحات لا يدركها وعيه المبرمج على إتمام العمل في هذا المعسكر على حساب إنسانيته، حتى يتوج ملكاً بعد عودته إلى بلاده، فهو «ما بدو مشاكل مع حدا».
صديقه، دولال، يبلغ الواحدة والثلاثين من عمره، يعيش في لبنان منذ ثلاث سنوات بصحبة زوجته، يتكلم العربية جيداً، ويعيل أسرته البنغلادشية بعد وفاة والده، لذلك يعجز عن تحديد موعد عودته إلى بلاده: «بطلّع 500 ألف ليرة في الشهر، أرسل 150$ منها إلى أهلي شهرياً. فمصروف العائلة البنغلادشية الشهري يساوي 200$ تقريباً». استأجر دولال شقة في حارة حريك بمبلغ 100$ في الشهر، ويحافظ على علاقة طيبة مع جيرانه ومحيطه، أما من يستفزونه في الشارع بعبارات عنصرية، فلا يردّ عليهم لإنو «أنا ما بدو مشاكل، بدو إشتغل وبس».
تؤكد الأدبيات الفرويدية أن أكثر من ينجح في عمله هو من يتوصّل إلى تحييد «الإيغو»، أي «الأنا». معادلة تبدو من اختصاص البنغلادشيين حسب مدير إحدى شركات التنظيف الصغيرة في منطقة النويري، رشيد بيضون، فلدى هذا الأخير نحو 62 مستخدَماً، من جنسيات متنوعة: المصري والسوداني والبنغلادشي والصومالي وتجربته معهم تفيد أن «البنغلادشيين والسودانيين هم الأفضل، فهم يعملون بجدّ ويصدقون في تعاملهم وبلادهم بعيدة فلا يسافرون كثيراً، على عكس السوريين الذين يعملون نحو 5 شهور، ثم يسافرون واعدين بعودة سريعة تطول أكثر من 6 أشهر».
أمّا اللبنانيون، فهم لا يطيقون هذا النوع من الأعمال رغم أنه «قد يكسبهم أكثر مما يكسبون من أعمال أخرى». جاء أحدهم مرة إلى رشيد طالباً العمل لكنه اشترط عليه ألا يسلّمه أي بناية أو شركة في منطقة «كركول الدروز» لأن خطيبته تقطن هناك ولا يريدها أن تراه يعمل بهذا النوع من الأعمال. لبنانيون آخرون لم يطيقوا العمل إلى جانب حاملي الجنسيات الأخرى الذين يعملون في الشركة،
فعلى حد وصف بيضون، اللبناني «جبار وبيتديّن ليتزيّن».
«الإيغو» حاضر بقوة لدى اللبناني، يترجم بإحساس طاغ بالفوقية ويصل إلى حدّ العنصرية أحياناً. يذكر رشيد أنه رأى، خلال سنوات اغترابه في ألمانيا، لبنانيين يعملون في شتى أنواع المهن من دون أن يعدّوا ذلك «مهيناً»، فلماذا «يرفضون أن يمارسوا تلك المهن في لبنان؟».
يسعف العمال الوافدين من الجنسيات المذكورة النقصُ اللبناني في سوق العمل، إلا أن استقدامهم يجري بآلية غير سهلة دائماً، تتداخل معها أحياناً الاعتبارات السياسية بحسب بيضون، فوزارة العمل «تسهّل أو تصعّب استقدام العمال الأجانب بحسب سياستها الآنية تجاه العمال السوريين». أما في ما يخص الأمن العام، فالمعاملة سلسة. إضافةً إلى تلك المصاعب، يمثّل انعدام تحقيق الأرباح منذ عام 2005 العائق الأشدّ لهذا النوع من الشركات، إذ إن «مصيرها من مصير السوق» كما يؤكد بيضون. فالسوق راكدة، والزبائن قليلون، ما يجعله يتراجع عن حسم 7% كعمولة له على تأمين العمال لهم. في مقابل ذلك، اضطر إلى زيادة الرواتب للعمال بسبب غلاء المعيشة، فالمعاشات أصبحت تراوح بين 300 و650$ تقريباً، والكفالة التي يضطر إلى إيداعها في البنك عن كل عامل تبلغ نحو مليون ونصف مليون ليرة، تصبح بمثابة رأس المال الراكد في ظل عدم تحقيق الأرباح.
إلا أن هذه العوائق، التي تجعل بيضون يفكّر في إقفال شركته، لا تمنعه من احتواء عماله وبناء علاقات إنسانية وطيدة معهم. فهو حاضر لانتشالهم من أي مشكلة يقعون بها، وابنه حسين الذي يساعده في إدارة الشركة هو بمثابة صديق لهم كما يؤكدون بأنفسهم. يذكر صاحب العمل يوم ولادة ابن العامل البنغلادشي مانيني، حين اتصل به لإنقاذه عند تسديد فاتورة المستشفى والقيام بالأوراق اللازمة لتسجيل الطفل. كما يذكر تماماً يوم انقضّ شابان على أحد عمّاله وهو يجمع نفايات إحدى بنايات منطقة النويري، فضربوه وسرقوا أمواله. يومها، اضطر المدير إلى دفع «ضعف المبلغ المسروق، والتوجّه إلى زعران مأجورين لردّ «الصفعة» بقوة حتى «ما تنعاد».
اللبنانيون «يستَعْيبون» أنواع المهن التي يجدون أنها «وضيعة»، فلا يمارسونها، لكنهم لا يكفون شرهم عمن يمارسها، ليجسّدوا المثل القائل: «لا بيرحموا ولا بيخلوا رحمة الله تنزل».