سعد الله مزرعاني*وراء قوة الولايات المتحدة الأميركية وسطوتها عناصر متعددة: سياسية واقتصادية وعسكرية ومالية وإعلامية ومعلوماتية وأمنية وثقافية (ما يتصل بالحداثة وأنماط الحياة الجديدة، وبعض الفنون الجبارة...). ولم يحصل انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الأوروبية الشرقية بدون تأثير تفوّق الولايات المتحدة في الميادين المذكورة. لقد سقطت «الأممية» في صيغتها السوفياتية أمام «العولمة» في صيغتها الأميركية. لا يهمل ذلك أثر العوامل الداخلية في الاتحاد السوفياتي السابق وفي بلدان أوروبا الشرقية التي تبنّت تجربته راضية أو مكرهة غالباً! إن جدلية تفاعل الداخل والخارج قد أنضجت ظروف التغيير في تلك البلدان التي عانت من الجمود ومن الأخطاء، ومن التطرّف في تطبيق صيغة النظام الجديد، ومن الخلل في الأولويات، ومن التعسف والقمع والاضطهاد وتغييب الديموقراطية والحقوق والحريات الفردية.
استغلت واشنطن في عهد الإدراة الحالية، التي مثّل «المحافظون الجدد» قوّتها القيادية الأساسية، هذا الانهيار من أجل إقامة نظام القطب الواحد. تولّى البوشيون و«المحافظون الجدد» وعدد من المنظّرين صياغة السياسات التي تكرّس وحدانية واشنطن وتفردها في تقرير مصائر العالم. أصدروا «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» عن البيت الأبيض في أيلول عام 2002. استغلوا إلى أبعد الحدود تفجيرات 11 أيلول عام 2001 من أجل جعل القوة هي السبيل الأساسي لفرض سياساتهم.
وكان الشرق الأوسط هو مكان الاختبار الرئيسي. استعار «المحافظون الجدد» وليكوديّو إدراة بوش، من السياسي الإسرائيلي المجرّب والمحنّك والخبير، رئيس إسرائيل الحالي، شيمون بيريز، مشروعه لإقامة «الشرق الأوسط الجديد». كان بيريز قد أعلن مشروعه هذا في كتاب أصدره بعد حوالى سنتين من انهيار الاتحاد السوفياتي. وبسبب فارق الحجم والإمكانات بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، بات مشروع «الشرق الأوسط الجديد» «واسعاً»، إذ يشمل مداه الجغرافي 27 دولة تمتد من موريتانيا إلى باكستان، ومداه الاستراتيجي قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، ومداه الاقتصادي حوالى ثلثي مصادر الطاقة في العالم!! احتلال أفغانستان وغزو العراق كانا في خدمة تحقيق هذا المشروع. وكان في خدمته أيضاً تعطيل المؤسسات الدولية وازدراء موقع «القارة العجوز» أوروبا ونفوذها وقيادتها، ومحاولة تغيير الأنظمة والعلاقات وأنماط الحكم والسلوك والحياة في عدد من البلدان الحليفة، وتهديد الأنظمة المعترضة والمناوئة وإرهابها وكسرها وإسقاطها.
حققت محاولة بوش وفريقه نجاحات أكيدة في بداياتها. أذعن كثيرون. التحق معترضون. تواطأ عديدون. صمت متضررون. لكن المغامرة البوشية لم تمض إلى نتائجها المقررة في حسابات فريق «المحافظين الجدد». وفي مدى لم يتجاوز السنتين، بدأت تتكشف جملة صعوبات أميركية لم تكن تخطر في بال أحد من صقور الإدارة الأميركية. لم تقتصر تلك الصعوبات على الحقلين العسكري والسياسي، فلقد امتدّت أيضاً إلى الحقول الاقتصادية والمالية والأمنية والأخلاقية (تدمير جزء من معالم حضارة العراق العظيمة، التعذيب في «أبو غريب»، تأجيج الغرائز المذهبية والطائفية...). أي إن إخفاقات الإدارة الأميركية وخسائرها، قد أصابت تقريباً كل عناوين قوتها المتنوعة ومصادرها التي أشرنا إليها في البداية!
بديهي أن النتائج جاءت معاكسة للتوقعات وللأهداف المرسومة من جانب الرئيس بوش. وثمة المزيد من التداعيات التي برز بعضها ولا يزال البعض الآخر قيد التبلور أو الولادة. ويستوقف في مجالات التداعيات الكبرى ما استنتجه الرئيس التركي عبد الله غول منذ أيام، حين قال «لا أعتقد أن العالم يمكن تديره قوة واحدة. فهناك أمم وشعوب ذات كثافة سكانية كبيرة. وهناك جزء من العالم يشهد نهضة اقتصادية غير مسبوقة. وهذا يتطلّب ليس المزيد من التفرد، بل المشاركة في القرارات». وأضاف الرئيس التركي: «يجب ظهور نظام عالمي جديد. وهذا العالم يجب أن ينشأ على أنقاض حروب القوقاز».
يكتسب كلام الرئيس التركي أهمية استثنائية بسبب اقترانه بفعل سلبي تجاه واشنطن، حيث منعت أنقرة السفن الحربية الأميركية من عبور مضيقي البوسفور والدردنيل، لنقل «مساعدات إنسانية» إلى الحكومة الجورجية! ويشير التاريخ المستمر للعلاقات الأميركية ـــ التركية إلى عمق التحوّلات التي يعيشها العالم، والتي لم تنتهِ إلى مستقر واضح بعد. فتجربة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا قد حظيت بتشجيع ودعم أميركي بوصفها صيغة لـ«مصالحة الإسلام مع الديموقراطية». وهي صيغة نقيضة للتطرّف و«الإرهاب» المعادي للولايات المتحدة وللديموقراطية في آن واحد. لكن واشنطن كانت شديدة التطلّب في الوقت نفسه. فهي حاولت زجّ النظام التركي ذي الجذور الإسلامية في الحرب على العراق. ثم حاولت حصار هذا النظام التركي في علاقاته الإقليمية الحيوية. كما تعاونت مع الأكراد في العراق «وهم خصم تقليدي للسلطات التركية»، مانحة إياهم امتيازات تتعدّى حتى مطالبهم وطموحاتهم الراهنة، وتمتدّ بتأثيرها إلى الكتلة الأكبر للأكراد في العالم، أكراد تركيا، موقظة فيهم نزوع الاستقلال والثورة والتمرّد...
أكثر من ذلك، ذهبت الإدراة الأميركية إلى حد ممارسة الدعم الضمني لمحاولة حظر حزب «العدالة والتنمية» نفسه، عن طريق غلاة المحكمة الدستورية التركية، ممن يشهرون سيف العلمانية المفروضة بقوة الجيش على التوجّهات والخيارات الديموقراطية المدعومة من الأكثرية الشعبية. ويمكن إدراج المعارضة العنيفة من جانب صديق واشنطن، حاكم فرنسا الجديد نيكولا ساركوزي، لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في سياق الضغوط المتواصلة على نظام حزب العدالة والتنمية. يمثّل مسار العلاقات التركية ـــ الأميركية نموذجاً لنهج القوة والتفرّد الأميركي من جهة، ولتعثّر هذا النهج وللتململ منه حتى من جانب أصدقاء واشنطن، من جهة أخرى. في أمكنة عديدة من العالم، تحصل نماذج مشابهة. ففي جنيف في مطلع الشهر الحالي، عجزت واشنطن أيضاً عن تمرير سياساتها في منظمة التجارة العالمية. وقد فشلت تسعة أيام من الاجتماعات في إعادة فرض سياسات واشنطن في حقول الإنتاج والتبادل الزراعي، نتيجة لمعارضة قوى كبرى باتت أقدر على ممارسة الاعتراض، ومنها الهند. وفي الشرق الأوسط، تلاحقت إشارات تراجع الدور الأميركي: بدء مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وسوريا بوساطة تركية غير منسقة بشكل كاف مع الأميركيين. العجز الأميركي المتفاقم عن السيطرة على الوضع في العراق (ما عدا بعض النجاحات الأمنية الجزئية). العجز الأميركي عن إنجاز تسوية على المسار الفلسطيني ـــ الإسرائيلي وفق ما أطلق من عهود ووعود كان آخرها في مؤتمر أنابوليس. تراجع التهديدات الأميركية لإيران نتيجة العجز الواضح عن تنفيذ مغامرة عسكرية أميركية جديدة في المنطقة. انعقاد «مؤتمر الدوحة» وتحقيق ما حققه من نتائج خلافاً للرغبة الأميركية والسعودية (خاصةً) بشأن الوضع اللبناني.
حرب جورجيا كانت المثل الأخير الذي دفع الرئيس التركي إلى المجاهرة بطلب وقف سياسة التفرد الأميركية. فقد برز مرة جديدة، بعد لبنان (خصوصاً)، عجز واشنطن عن تقديم الدعم لحلفاء سبق لها أن ورّطتهم في مشكلة داخلية أو خارجية! ويضيف الداخل الأميركي أسباباً مهمة إلى تأكيد فشل السياسة الخارجية التي اتّبعها الرئيس الأميركي الذي تقترب ولايته من لفظ أشهرها الأخيرة. لقد بات في حكم المؤكد أن نظام القطب الواحد قد واجه من الصعوبات والعثرات ما حال دون تكريسه ونجاحه. لا يعني ذلك أن البديل قد تبلور في صيغة واضحة حتى الآن. ثمة قوى دولية عديدة تملك الإمكانات البشرية والاقتصادية والعسكرية، وهي مؤهلة لأن تلعب دوراً كبيراً أو صغيراً في منظومة العلاقات الدولية. يدفع ذلك إلى البحث في الأسس الجديدة للعلاقات الدولية. وأكبر الأسئلة في هذا الصدد تطرح على منطقة الشرق الأوسط عموماً والشرق العربي خصوصاً. لا يمكن لصياغة سياسة مسؤولة وحريصة ومواجهة لمشاريع الهيمنة، أن تتجاهل ضرورة بناء عناصر القوة العربية في مستوياتها الاستراتيجية الأساسية: السياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية. الفراغ سيغري بمغامرات جديدة، لأن أهداف الهيمنة الأميركية ستستمر رغم تغير الإدارات في واشنطن، ورغم سقوط كل رموز «المحافظين الجدد»، ورغم بروز لاعبين جدد على المسرح الدولي.
* كاتب وسياسي لبناني