خضر سلامةالطقس في القلب مشمس على ارتفاع ألف قلمٍ عن محبرة الحزن. الطقس مشمس والرياح تهرب من وجه الطائرة الغارقة في أحلام المسافرين عكس عقارب السفر. الرياح تركض بسرعة عشرين دمعة للراكب الواحد. كلّ شيء هنا يزدحم برائحة العودة، ويحكي الأشواق والمواعيد في حقائب العائدين صيفاً. لن تغيب الشمس حتى يلفظ الصيف آخر أنفاسه.
أنا الجبال، السهول، البحار، أنا ملكٌ في عودتي، ملكٌ فوق أشياء كثيرة. بيروت بعد قليل بين يديّ، ببحرها، بحرِّها، بأغنيائها المذبوحين تخمة، وفقرائها المذبوحين جوعاً. بيروت نجمةٌ عربية على سطح كوخ، زرعها العرب على جبين المتوسط، فغدت معلّقةً منظومةً في زمنٍ جميل وفصيح، وتراني أمام نفسي: من يحمل من؟! أتحملني الطائرة إلى حضن وطني، أم أني أحمل الطائرة والوقت والحنين وتاج الشوك والشوق على كتفيّ، وأهرول طفلاً حافياً كي أعانق جذع زيتونةٍ جنوبية قديمة تسمى مجازاً «جدتي»؟
الطقس في الطائرة قليل الكلام، والعين تجول بين عجوزٍ يغيثه مقعده بارتداء ساعة راحة قبل معركة الدمع عند السقوط في حضن حفيد أو حفيدة، وصبية تختال بجواز سفر مكسيكي وبلكنة مهشّمة فيها رائحة الأرز، صبية تسمح لي بكل ما نبت في قلبها من كبرياء، أن أقرأ في عينيها قصيدةً كتبها فارس عربي أسمر على شاطئ المتوسط، وخبّأها في زجاجة كحل أسود، وأرسلها إلى سمراء من نسل ملوك المايا. الطقس هنا كثير الذكريات، مرتفع الآمال. علب الهدايا تخلع أسرارها لتطلّ بفرح الصيف من شبّاكٍ مشرّع على قبلاتٍ كثيرة، وأسئلةٌ عن تجاعيد أكواب الشاي وأقداح القهوة وطعم التفاح الجبلي والعرق البلدي، وعن سعر الجيرة الطيبة بعيداً عن بلاد الكشوفات البنكية. وهنا أيضاً طفل يبكي لأجل البكاء لا أكثر، يسند صراخه على أذنيّ، رغبة منه ربما في طحن أفكار تكاد تسرقني من دهشة الانتظار الطويل المرير. لن تهرب أيها المشتاق من لوعة الشوق.
مشمس. الشمس تسير مذعنة في قافلة العودة. الغيم تحتنا يتكسّر بألوانٍ أستعيرها من رمال بحر صور. الغيم لا زال يرفض أن يبوح لي بسر صناعة المطر. لا فرق، فأنا أعرف سر صناعة البسمة. أن تملك وطناً ولو على ورقة، ولو في تابوتٍ من حلم. عليك أن تبتعد قليلاً عن نفسك، فنفسك أكثر وضوحاً وأكثر جمالاً من بعيد، الجبال، البحار، الذكريات والحب الأول والأخير. قائد الطائرة يستأذن من المشتاقين للاستراحة في قبرص، على مرمى حجرٍ من ذراعي أمك. حسناً: نساء قبرص لا يذكّرنني بشيءٍ من أعمال السرير، الشقراء فيها بيدر قمحٍ تهت عنه منذ آخر قذيفةٍ قتلت ثلماً في أرض الجنوب، فدفن وجهه في ثلمٍ آخر. والسمراء فيها بحر له رائحة، والرائحة لها ذكرى، والذكرى مشدودة إلى خصر أنثى أحببتها، ولا زلت، عرفتها منذ زمنٍ لا أعرفه، بالأمس ربما، أو غداً. كل شيءٍ في بيروت يذكّرني بكل شيء. حقيبة السفر المعلّقة بنصف حلم ونصف دمعة تودعني في عودتي. الوقت مطلقٌ الآن للوطن، والوطن حقيبتي الكبيرة. سأنتشل لكم منها وردة، وصورة ملوّنة لبلادي.. صورة شمسية للأمل، للغد.