حلم بأن يكون حكواتياً، فصار كاتباً له مكانة خاصة فوق خريطة الأدب السوري الحديث. في كنف والده الشيخ الأزهري تربّى على تلاوة القرآن، وتعلّم العزف على العود، واكتشف موسيقى باخ وموزار... زيارة إلى «الكاتب الأرستقراطي» الذي أقلع عن الغليون وارتياد المقاهي، والذي يرى أنّ كل مؤلفاته تمارين على نص مثالي لم ينجزه بعد

خليل صويلح
خلف زجاج مقهى «القصر» في شارع «بارون»، أحد أشهر شوارع مدينة حلب، كان بإمكان المرء أن يكتشف من دون عناء طاولة تزدحم بالمثقفين الحلبيين الشباب مساء كل يوم، يتوسطهم رجل أنيق ووسيم يدخّن الغليون، يناقش بحماسة وينصت إلى أفكار الآخرين. هذا الرجل هو وليد إخلاصي.
زائر المدينة اليوم سيفتقد ذلك المشهد، فقد تحوّل المقهى الشهير إلى محل لبيع الأحذية... ثمّ إنّ وليد إخلاصي نفسه، لم يعد يرتاد المقاهي. للرجل يومياته الصارمة ومواعيده الدقيقة، يخرج من منزله في «طلعة الهندسة» في العاشرة صباحاً إلى مكتبه الخاص الذي لا يبعد بضعة أمتار، متفرغاً للكتابة واستقبال الأصدقاء. المهندس الزراعي الذي عمل سنوات طويلة خبيراً للأقطان، يكتفي اليوم بمراجعة مسودات رواياته ومسرحياته، بعدما توقف عن الكتابة للصحافة. الأزمة القلبية التي ألمّت به قبل سنوات، اضطرته للتوقف عن تدخين الغليون، وبذلك تخلّص من تهمة «الكاتب الأرستقراطي». كما نبّهته إلى ضرورة ارتياد منطقة كتابية لطالما تجاهلها قبلاً، وهي ذكرياته عن حلب القديمة. هكذا سيكتب في روايته «سمعت صوتاً هاتفاً» لحظة مواجهة الموت، قبل أن يرتد إلى الطفولة البعيدة في حارة «باب جنين»، وبداية تفتح مشاعره الوطنية من خلال مقاومة الاستعمار الفرنسي.
في ذكرياته عن المدينة القديمة التي جاءها طفلاً من لواء اسكندرونة، يتذكر مشاويره الأولى إلى «دار الكتب الوطنية». هناك كان يلتهم كل ما تقع يده عليه. سيتعرّف الفتى إلى جان جاك روسو وأبي حيان التوحيدي... وحتى أرسين لوبين. وذات يوم، اعتذر أمين المكتبة عن عدم استقباله، بعدما استعار كل موجودات المكتبة. الأب الأزهري سيكون بوصلته إلى القراءة، والشغف بالعلم والتعددية والتسامح، وهو ما علّمه باكراً معنى الديموقراطية في تجاور الأفكار، لكنّه لم ينخرط يوماً في حزب سياسي. ظل على مسافة واحدة من الجميع، كما أنه لم يحقق رغبة والده بأن يكون رجل دين أو طبيباً: «حين دخلت قاعة التشريح في كلية الطب في جامعة دمشق، شعرت بقشعريرة، جعلتني أقرر على الفور، أنّ هذا ليس مكاني. وكي أهرب من مواجهة والدي، انتسبت إلى كلية الزراعة في الإسكندرية، وعيني على دراسة الأدب. لكن الميكروسكوب علمني كيمياء المعرفة».
مجلة «الاعتصام» التي أسّسها والده في عشرينيات القرن المنصرم، قادت خطواته الأولى إلى الكتابة. قرر بدوره أن ينشئ مجلة، لكن أحلامه أُجهضت بسبب شروط قانون المطبوعات التي لا تتيح لفتى صغير إصدار مطبوعة. لاحقاً سيكتب قصيدة ضد «مشروع إيزنهاور»، ويوجهها إلى الرئيس الأميركي. قرّر يومذاك أن يذهب إلى بيروت، لمقابلة رضوان الشهال صاحب مجلة «الثقافة الوطنية»، طالباً نشرها في المجلة، فتسلل عبر الحدود، لأنّه لا يحمل بطاقة هوية. لكن الشهال نصحه بألا يقلد أسلوب أحد: «كنت أقلّد قصيدة كتبها عبد الرحمن الشرقاوي ووجهها إلى الرئيس الأميركي».
تلك النصيحة علّمته أن يكون مجدداً ومبتكراً في كتاباته، ما قاده مبكّراً إلى دروب التجريب، سواء في الرواية أو في المسرح. هكذا جاءت روايته الأولى «شتاء البحر اليابس» (1965)، بمثابة تمرّد على السرد التقليدي في الرواية السورية. لكن عشق صاحب «دار المتعة» سيكون للمسرح، منذ أن وقف ذات يومٍ بعيد على خشبة مسرح مدرسة «الحمدانية» في حلب، ليلعب دوراً في مسرحية مدرسية. كان الطفل وليد إخلاصي شغوفاً بالفنون عموماً، والمسرح على نحو خاص: «الحوار في المسرح يعلمنا الديموقراطية، والإنصات إلى الرأي الآخر». كما سوف تلعب الموسيقى دوراً في تهذيب ذائقته.
كان الأب الأزهري يعشق الموسيقى أيضاً، فهو لم يمانع أن يتدرب ابنه الأكبر على العزف على آلة العود. «في البيت، كنت أستمع إلى المعلم بكري الكردي، مثلما كنت أنصت بخشوع إلى صوت محمد رفعت في تلاوة القرآن، وأستمع إلى موسيقى باخ، وموزار وهاندل الذي يرافقني إلى اليوم خلال الكتابة». «مختار حلب الأدبي» كما يلقّبونه، يحمل في ذاكرته حكايات لا تنتهي عن المدينة التي خلّدها في كتاباته، بروائح التوابل في أسواقها، وباختراع تاريخ ومكان افتراضيين لأبواب المدينة. «أكره الرواية التاريخية»، يقول وليد إخلاصي محتجاً، قبل أن يضيف: «أكتب حلب التي أشتهي، وأخترع أبواباً لها، غير موجودة في الواقع، للدخول إلى أسرار المدينة، وفتنتها النائمة، وعمارتها التاريخية، وتحوّلاتها الحديثة».
حين منحته لجنة «سلطان العويس» جائزتها (1996)، علّق بالقول:«الجوائز العربية إنذار بنهاية الخدمة». الجائزة لم تمنعه من ارتياد مناطق شائكة في الكتابة والمواظبة على العمل بحماسة في مختلف الحقول الإبداعية، من دون أوهام: «كل ما كتبته هو مجرد بروفة لكتابة نص مكتمل. فأفكاري طالما سبقت لغتي، وسأبقى كاتباً هاوياً حتى آخر سطر في حياتي». يصمت قليلاً ثم يقول: «على الحكومات العربية أن تنقّب عن المبدعين، كما تنقّب عن البترول، لأن الثقافة من صلب أي مشروع وطني يستحق هذا الاسم».
على مقاعد الدراسة الابتدائية، تعرّف إلى صباح أبو قوس (صباح فخري لاحقاً) الذي سيصبح أباً روحياً للقدود الحلبية. وسيعلّمه اللغة الإنكليزية أستاذ اسمه... فاتح المدرس، قبل أن يصبحا صديقين حميمين. أما الشغف باللغة العربية والشعر، فجاءاه عن طريق الشاعر سليمان العيسى. تعلّم أن الاقتصاد اللغوي هو جوهر الكتابة: «أحرص على الابتعاد عن البلاغة اللفظية والتكرار والإنشاء، لمصلحة الصورة المحسوسة». ويستدرك: «هذا لا يعني أنني تخلّيت عن البعد الروحاني!».
وفي مقهى «القصر» السعيد الذكر، التقى أيضاً التشكيلي الشاب لؤي كيالي، وزاد اهتمامه بالتشكيل، وراح يكتشف فنانين شباناً ويتبنّى مواهبهم. كلّما طال الحديث، تتدافع الذكريات عن حلب وأعلامها، من خير الدين الأسدي صاحب «موسوعة حلب» إلى آخر شاعر مغمور يتلمس خطواته الأولى. فزيارة وليد إخلاصي والتعرف إليه عن كثب، تعلّم المرء معنى الصداقة التي لا تحتاج إلى مقدمات... ذلك أنّ روحه الشابة تلغي المسافة على الفور. وإذا بنزعته المشاكسة تهيمن على الحديث: «كنت أرغب بأن أكون حكواتياً، لكن البوصلة خطفتني في اتجاه آخر».


5 تواريخ

1935
الولادة في اسكندرونة
1965
الرواية الأولى «شتاء البحر اليابس»
1996
جائزة سلطان العويس مناصفة مع جمال الغيطاني
2006
وسام الاستحقاق السوري
2008
الجزء الأول من مذكراته «من اسكندرونة إلى الإسكندرية»