شاباً، كان علي حيدر مشاكساً. صفة جعلته دائماً في طليعة المتمردين «لا يقبل الزاحلة» كما يقال هنا. اليوم، وقد تجاوز السبعين، يعوّض بصداقته للشباب. يقصدون منزله الزهريّ في ساحة مركبا، متنافسين على شراكته في لعبة «الليخة»
مهى زراقط
على ثلاث دفعات، نقلت سيارة خاصة 35 شاباً من بلدة «مركبا» إلى بلدة «الطيبة». جلسوا متراصّين على مقاعدها، ولم يتردّد بعضهم في اعتلاء سقفها. كان ذلك نهاية خمسينيات القرن الماضي. كانوا على موعد مع أحمد بك الأسعد، الذي استقبلهم بودّ وجلس معهم على كرسيّ قش وسبقهم إلى الكلام: «عندما قيل لي إن القادمين لزيارتي شبان، قلت لنفسي لا شك في أنهم في صدد المطالبة بمصلحة عامة». وقبل أن يعلّق أيّ منهم بكلمة، استطرد قائلاً: «سألت نفسي، ما هي المصلحة العامة لبلدة مركبا؟ ولم أجد إلا المدرسة. وها أنا أعدكم اليوم، سأشرب القهوة السنة المقبلة على شرفة مدرستكم، ولن تحتاجوا إلى مراجعتي في هذا الموضوع».
كان يمكن للقاء أن ينتهي هنا. إلا أن علي حيدر لم يقتنع، وقال لـ«البيك»: «بلى، سنراجعك يا بيك، يجب أن نذكّرك بالأمر». لكن «البيك» لم يكن مستعداً لسماع المزيد من الكلام، «برم ظهره وانصرف». يتذكر حيدر ذلك اللقاء جيداً، ويرويه بتفاصيله، وخصوصاً أن كثيرين لاموه على تصرّفه الجريء. لكن، مع مرور الزمن، تبيّن لهم أنه كان محقّاً: «راح أحمد بيك ثم جاء ابنه كامل، الذي شغل منصب وزير التربية، ولم تبنَ مدرسة في مركبا إلا بعد تأسيس مجلس الجنوب على يد السيد موسى الصدر»، بداية السبعينيات كما قال.
هذه الحادثة ليست إلا واحدة مما يتناقله أهالي البلدة من «مشاكسات» علي حيدر المولود عام 1932، والعامل الذي لم يكمل تعليمه الابتدائي، لكنه تصدّى فطرياً للظلم اللاحق بأبناء بلدته، وكان من الناشطين في العمل التنموي والاجتماعي من دون أن ينخرط سياسياً في الحزب الشيوعي الذي استقطب الآلاف من أبناء الجنوب آنذاك. تعلّم حيدر فكّ الحرف «عند الشيوخ على الحصيرة»، كما قال، قبل أن يصل أول مدرّس «رسمي» إلى البلدة في عام 1944: «كان اسمه الشيخ أحمد شرارة. كنا 85 طالباً في غرفة واحدة، ومعنا فتاتان فقط». تعلّم في مدرسة هي عبارة عن بيت مستأجر سنوياً: «دفع كل بيت 5 ليرات لشراء مقاعدها»، ويذكر حيدر أنهم كانوا يكتبون على ألواح من التنك بقلم من قصب. أنهى التلاميذ الصف الرابع ابتدائي. كان عليهم الانتقال إما إلى صور أو النبطية للحصول على شهادة الابتدائية أو «السرتفيكا». لكن هذا لم يكن ممكناً مادياً له. هكذا، عمل فلاحاً. ثم نزح إلى بيروت ليعمل في البناء، «أقمت في المصيطبة لدى عائلة تؤجّر غرفاً للعمال كما توفّر لهم غسيل الثياب».
في عام 1956 «فتحت الكويت وسافرت إليها للعمل». من الكويت إلى ليبيا، فالسعودية، اكتشف الفارق بين الشعوب التي تعرّف إليها: «بدا لي الشعب الليبي أكثر قرباً إلينا، يمكن بناء علاقة طيبة معهم، فيما لا مخالطة مع الشعب في الكويت أو السعودية».
كان يسافر وفقاً لمشروع البناء، فلا يتأخر أكثر من عام، يعود بعده إلى القرية منخرطاً في نشاطات شبابها. «كنت ناقماً على الوضع وأرغب في التغيير»، فشارك في الاحتجاجات على أسعار التبغ، لافتاً إلى أنّ بلدة حولا المجاورة هي من كان يأخذ المبادرة، «لأن نشاط الحزب شيوعي فيها كان كبيراً».
لكن «مركبا» كانت السبّاقة إلى إنشاء مستوصف، يرى أبناء البلدة أنه أسس لجمعية «النجدة الشعبية» من خلال حملة جمع التبرّعات التي قاموا بها. كان حيدر أحد الناشطين في هذا المشروع الأساسي في بلدة مركبا، الذي يختصر جزءاً من حياتها السياسية: «كان أبناء مركبا ينتظرون الطبيب رامز عودة الذي كان يزورهم أسبوعياً. يأتي إليهم على ظهر حصان، حاملاً أدوية في الخرج. وكان هناك من ينادي في القرية أنّ الحكيم إجا».
بناءً عليه، «قررنا تأسيس مستوصف في القرية. وشجعتنا على الفكرة عودة ابن البلدة، الدكتور محمد دقيق من فرنسا، الذي أبدى استعداده لمساعدتنا». عندها، انهمك الشباب في جمع التبرّعات التي وفّرت شراء أرض بني عليها المستوصف. كما استطاعوا الحصول على أدوية من المستودعات، وعملوا على تنظيم المواعيد والمراجعات، وخصوصاً بعدما لقي المستوصف نجاحاً كبيراً، «حتى إن أبناء القرى المجاورة كانوا يقصدونه».
هذا النجاح لم يرضِ «الأسعديين» الذين رأوا فيه تحرّكاً ضدّهم. فتقدموا بشكوى إلى وزارة الصحة لإقفاله: «أرسلوا طبيباً كشف على الأدوية ونوعيتها، ولمّا تبيّن له إننا كنا نقدّم إبرة ثمنها 90 ليرة لمريض يدفع ليرة واحدة للمعاينة، رفض إقفال المستوصف». ما لم ينجح فيه الأسعديون، نجحت فيه الخلافات الداخلية. «كنت في ليبيا عندما علمت أن المستوصف فرط بسبب خلافات ضيّقة».
تزامن ذلك مع الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978 ونزوح عدد كبير من الشباب الناشط إلى خارج ما كان يسمى الشريط الحدودي. هنا يحكي علي حيدر عن وجهين لحركته، وخصوصاً أنه بقي في مركبا كلّ سنوات الاحتلال: «خلافات أبناء القرى قد تدفع بعضهم إلى الوشاية، لذا ابتعدت». لكنه يعترف بأنه كان يقوم بين وقت وآخر بحركة توحي عدم رغبته بالصدام، كإجرائه عملية جراحية في فلسطين المحتلة. يجد تصرّفه مبرراً. فقد فوجئ خلال احتفال، «أجبرنا على حضوره في ساحة بلدة ميس الجبل»، بشبان كانوا في الحركة الوطنية «يشاركون في عرض عسكري ضمن جيش سعد حداد»! رغم ذلك لم ينجُ من المضايقات. فاستدعي ابنه إلى التجنيد الإجباري في «جيش لحد». وجاهد ليخلّصه عبر اللجوء إلى رشوة متعاملين مع الاحتلال.
لكنه لم يتردد في قول الحق عندما كان يوجه إليه السؤال مباشرة. «مرة جمعونا بعد عملية للمقاومة في البلدة، وطلبوا إلينا استنكار العمليات. قلت لهم إن الآليات الإسرائيلية لا يجب أن تمرّ بين الناس، وإنّ المقاومة لم تستهدف يوماً مدنيين». بعد هذا الحديث، الذي لم يبثه «تلفزيون الشرق الأوسط»، هدده ضابط إسرائيلي بأنه كان يمكنه اعتقاله. فيما لامه بعض العملاء لأنه لم يسمّ المقاومين «مخرّبين». يقول «أجبته: لمَ لم تطلع أنت في التلفزيون وتقول إنهم مخرّبون؟».
الصدام الثاني كان مع الإسرائيليين قبل شهر واحد من التحرير، «كنت في منزل أحد رجال الإدارة المدنية حين دخل إسرائيليون إلى منزله. علم أحدهم بأني كنت في بيروت، فراح يسألني عن الوضع بلغة عربية فصحى. وتهجّم كثيراً على السوريين، متسائلاً كيف أننا لا نقوم بأي تحرّك ضدهم، فأجبته بأنه لا يمكن المطالبة برحيل السوري قبل الإسرائيلي».


حقوق المواطن

يتذكر جيل أصغر في البلدة العديد من المواقف «الصدامية» لعلي حيدر، سواء مع أبناء البلدة أو آخرين. منها منعه أحد عناصر «الدرك» مرة من تسجيل مخالفة بحق مواطن لأنه رمى قشور الرمان على الأرض الترابية. قال له: «قبل أن تعاقبه، هيّئوا لنا طريقاً مزفّتة، ووفروا الخدمات التي تقدمها كل دولة لمواطنيها قبل معاقبتهم»