ما هو الثمن الذي ندفعه بسبب انقطاع التيار الكهربائي وعجز الحكومة، أو تقاعسها منذ سنوات، عن إيجاد حل لها؟ ينحصر السؤال عادة في الأمور الاقتصادية، لكن الأطباء يلفتون إلى «الآثار الصحية» ويدقّون ناقوس الخطر، متحدّثين عن أمراض سرطانية ورئوية، وعن تأثر عملية السمع والتركيز
حلا ماضي
... إلى حين استجرار الطاقة الكهربائية من مصر والدول العربية إلى لبنان، أو من بقاع بعيدة... فإن كل سكان لبنان سيصبحون «مدخنين»، ومَن لا «يتعاطى النيكوتين» فهو مدخن رغماً عنه، يتعاطى التدخين السلبي من السجائر أو النراجيل... أو من المولدات الكهربائية.
بدل النيكوتين نستنشق دخان مولّد الكهرباء، أو بالأحرى الزيت المحروق الذي ينبعث من بين المنازل والأحياء السكنية في بيروت وضواحيها، لينتشر في السماء مشكّلاً «مشهداً بيئياً» لا مثيل له من حيث الخطورة والبشاعة...
أزمة الكهرباء التي باتت ترافق اللبناني منذ ولادته حتى آخر «نفس ملوّث» من حياته، لا تقتصر سلبياتها على النواحي الاقتصادية، لاضطراره إلى «الاشتراك» بأحد المولّدات الكهربائية كأحد العوامل الأساسية لاستمرار حياته اليومية، بل تتعدى ذلك إلى استفحال الأمراض الرئوية وتفشّيها بوتيرة مضاعفة، كما يقول الاختصاصي في الأمراض الصدرية الدكتور جميل جبق الذي يشير إلى ازدياد حالات الحساسية والربو عند الأطفال والأمراض السرطانية، وبالطبع تغيب الإحصاءات الجديدة عن نسبة انتشار هذه الأمراض، ولكن الأطباء يلاحظون ارتفاع المصابين بها من خلال الحالات التي يعاينونها، ويعيد جبق تزايد تلك الحالات إلى الزيادة في نسبة التلوّث في مدينة بيروت وضواحيها، وقد أصبحت عاصمتنا من أكثر مدن العالم تلوّثاً مقارنة بمساحتها وعدد سكانها.
ومن أبرز الأسباب، استناداً إلى جبق، الإكثار من دوران المولّدات الكهربائية التي «تتميّز» بعدم وجود فلاتر علمية لتنقية الدخان المنبعث منها عند تشغيلها، إذ يعمد أصحاب المولّدات إلى وضع «أشكمانات» بطول عشرة أو عشرين متراً كـ«فلتر». ولعلّ المشكلة الأساسية في استعمال تلك المولّدات تكمن في وضعها بين المنازل وتحت الشبابيك، قريباً جداً من الناس.
ومن خلال معايناته مرضاه، يقول جبق إن مريضاً من اثنين يعاني من السعال، تتولّد لديه حساسية قد تتطور مع الوقت إلى أمراض مزمنة كداء الانسداد الرئوي، وأمراض سرطانية، ويمكن القول إن لهذه الأمراض علاقة مباشرة بمشكلة التلوث.
يلفت طبيب الأمراض الصدرية إلى أن عدداً من تلك الحالات تسببت بها عادة تدخين السجائر، لكنه يؤكد أن «دخان السجائر أقل ضرراً بكثير مما تسببه انبعاثات المولّد الكهربائي»، لأن دخانه عبارة عن زيت محروق يدخل مباشرة إلى الرئتين.. وهنا تكمن الأهمية والحاجة لوجود فلاتر حقيقية وهي التي قد تكون مكلفة، وتكفي جولة ميدانية في أحياء بيروت والضواحي ليلاحظ المرء غياب الفلاتر وانبعاث الدخان من المولدات.
«وشّة» وطنين
ولا تقل خطورة الإصابة بالأمراض الرئوية عن تلك التي تصيب الأذن وتشل مهمتها، فالضجيج الذي تصدره المولدات يحاصرنا، والتعرض له لمدة تزيد عن أربع ساعات يومياً وبشكل متكرر يؤذي بعض موجات العصب داخل الأذن، كما يشخّص الاختصاصي في جراحة الأذن والأنف والحنجرة الدكتور دياب سرور، وهو يقول إن الشخص الذي يسكن بـ«جوار» أحد المولّدات الكهربائية يشعر بادئ الأمر بـ«وشّة» في أذنيه ثم بطنين، مما يؤدي إلى عدم التركيز وفهم الكلام بطريقة مشوّشة، ويلفت إلى ظهور حالات لدى بعض الأطفال القريبين من أماكن المولّدات تتمثّل بالدوخة والاستفراغ.
ويشير سرور إلى أن تأثير الضجيج الناتج من «صوت» المولّدات الكهربائية قد تبلغ قوته في بعض الأحيان 90 ديسيبل، وهي درجة كبيرة تؤثر على الشعيرات العصبية الموجودة داخل الأذن، مما يضرب التوازن ويسبب العطب في حال التعرض لذلك الضجيج لوقت طويل ويومي. فهل بين المسؤولين مَن يسمع هذا التحذير؟
يقول الدكتور محمد صادق، الاختصاصي في جراحة الأذن «عامةً، تسبّب الضوضاء ضرراً لجهاز السمع، وتؤدي إلى تردي القدرات السمعية، وزيادة نسبة الأدرينالين والدهنيات في الدم، وإلى التعرق، وتسبب اضطرابات في جهاز الهضم، وتقلِّص العضلات، كما تؤدي إلى انخفاض في الخصوبة عند الرجال، ومشكلات في النوم، وتوتر في القدرة على التركيز والأداء في العمل».
وجود المولدات بين المنازل وتحت الشبابيك عشوائياً «يمثّل أحد الأسباب الرئيسة التي تزيد مخاطر المولّدات الكهربائية على البشر كما على البيئة» كما يقول علي درويش، الناشط في جمعية «Greenn Peace»، وهو يشير إلى «تزايد تلك المولّدات بشكل غير طبيعي بهدف التجارة وربح المال في ظل غياب أية رقابة رسمية من جانب وزارتي البيئة والصحة». ويلفت درويش إلى أن التلوّث الحاصل بسبب تلك المولّدات أصبح خارج السيطرة، سواء على صحة الإنسان أو البيئة في بيروت وضواحيها.