ناهض حتر *دعا حزب «الوحدة الشعبية» (الذراع الأردنية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، إلى ملتقى وطني تحت شعار «الخبز والحرية». وقد توصل الملتقى يوم الأربعاء 20 آب، إلى تأليف لجنة لإطلاق حملة من أجل تحسين الظروف المعيشية والإصلاح السياسي.
الدعوة والملتقى جاءا متأخرين ثمانية أشهر عن لحظة صعود الأزمة الأردنية، وبعد استقالة كاملة من المشاركة في أشهر الصراع الاجتماعي ـــــ السياسي الساخنة مطلع هذا الصيف. وكأن «الشعبية» وسواها من أحزاب المعارضة التقليدية في الأردن ـــــ وهي إما أنها تدّعي الماركسية أو الاتجاه القومي الماركسي ـــــ لم تتعلم شيئاً من فلاديمير لينين الذي سبق له أن قال: «غداً سيكون قد فات الأوان».
انطوت تلك الأحزاب تحت عباءة الإسلاميين لعقدين كاملين، فلم تعد تجرؤ على المبادرة المنفردة من دونهم. وهؤلاء، كما هو معروف، لا يقلقون كثيراً بالمسائل الاجتماعية، بل إنهم يجدون في انتشار الفقر فرصة مضاعفة لانتشار نفوذهم «الخيري» والأيديولوجي بين الجماهير.
وهكذا، تعطلت قدرة أحزاب المعارضة التقليدية في الأردن، عن اغتنام فرصة الاستقلال السياسي عن الإسلاميين، والتقدم لقيادة الحركة الشعبية. لقد «فات الأوان» بالنسبة إليها. ذلك أن هناك قوى أخرى جديدة، يسارية وعمالية وطلابية وعشائرية وثقافية وأخرى من قلب البيروقراطية المدنية والأمنية، ملأت الفراغ، وحددت، وفقاً لتناسب ميزان القوى بينها، برنامج الحركة الشعبية المضادة في ثلاث نقاط مطابقة لمتطلبات المرحلة، هي: (1) إسقاط الليبرالية الجديدة وإعادة التوازن لدور الدولة الاقتصادي ـــــ الاجتماعي في البلاد، (2) الدفاع عن الصلاحيات الدستورية للحكومة المركزية والهيئات العامة ضد تفكيكها وتجاوزها، (3) التصدي لمشروع «الوطن البديل».
هذه النقاط البرامجية الثلاث، لم تتحدد، كيفياً، في ملتقى معزول، بل وسط صراع واقعي محتدم مع حزب الليبرالية الجديدة المسيطر في الديوان الملكي، وكذلك، بين القوى التي تشكل التحالف المضاد بين تركيز اليسار الاجتماعي والعناصر الشعبية على البرنامج الاجتماعي وتركيز القوى البيروقراطية على استنقاذ صلاحياتها وتركيز القوى العشائرية على مجابهة الوطن البديل.
وإذا كانت أطراف الحركة الوطنية الجديدة، متفقة على هذه العناصر، فإن العملية السياسية الواقعية لتكوين برنامجها المشترك، عَكَس، وسيظل يعكس موازين القوى بينها. وهي متغيرة، وفقاً لنشاط القوى اليسارية والشعبية والتطورات الإقليمية والدولية.
خلال الأشهر الحاسمة في تكوين ملامح الصراع الداخلي وقياداته ومنهجه، (في أيار وحزيران وتموز 2008) كانت أحزاب المعارضة التقليدية في الأردن، غائبة، صامتة ومشلولة بقناعة التعفف عن «صراع يدور بين أطراف النظام»، وكأنه، بذلك، ليس صراعاً، وبلا مضمون اجتماعي ـــــ سياسي، ولا يمكن التدخل فيه لمصلحة الرؤية الشعبية والتقدمية!
الوحيد الذي كسر ذلك الصمت، كان أمين «الشعبية»، سعيد ذياب الذي صرح، مؤيداً الليبراليين الجدد والاستثمار... ربما مدفوعاً بعدائه المبدئي للبيروقراطية الأردنية، أو ربما معبراً عن ميله إلى قيام «الوطن البديل» في الأردن، متوهماً أن نجاح هذا المشروع، سوف يمنح حزبه موقعاً في التركيبة السياسية الجديدة لأردن فلسطيني.
وسنكتشف أن تصريح ذياب ذاك، لم ينشأ عن الخوف فقط أو خطأ عابر. بل إنه يعبر عن صميم الرؤية السياسية لـ«الشعبية» وملتقاها الوطني. وهي، كما سنرى رؤية ليبرالية فائتة، لا شعبية ولا وطنية.
(1) شعار الملتقى: «الخبز والحرية» ليس من إبداع الداعين أو المشاركين فيه. بل هو شعار مستعاد من انتفاضة نيسان 1989، تكوّن في ظل مطلب عياني، حين كانت الأحكام العرفية تمنع نهوض المجتمع.
وقد قدمت هذه الجماهير، مذذاك، الحرية على طبق من ذهب لـ«الجبهة الشعبية» وبقية المشاركين في الملتقى من دون أن يبذلوا ـــــ ما عدا الشيوعيين واليساريين الأردنيين ـــــ أي جهد أو أن يقدموا أية تضحيات (وهو ما حدث، أيضاً، في انتفاضة 1996 التي رفعت شعار الخبز ضد سياسات إزالة الدعم عن السلع والخدمات).
لكن الجماهير الأردنية لم تعد تتبنى الآن هذا الشعار. لقد أصبح فائتاً بالنسبة إليها. فما تريده ليس «الحرية» الليبرالية، بل المشاركة في اتخاذ القرار الوطني، والدفاع عن البلد وهويته واستقلاله. كذلك فهي لم تعد ترضى «بالخبز» ـــــ الذي قد تتيحه أعمال الخير ـــــ بل اقتلاع نهج الليبرالية الجديدة من جذوره، وإعادة تأسيس الدولة على تحالف اجتماعي وطني يسمح بقيام تنمية وطنية توزع مكاسب النمو على أسس المساواة والفعالية.
(2) يصف ذياب، في افتتاح الملتقى المذكور، الأزمة الأردنية بوصفها «أزمة اقتصادية». وهذا التوصيف يتطابق تماماً مع رؤية الليبرالية الجديدة الساعية إلى تصوير الأزمة الاجتماعية المتصاعدة بوصفها أزمة اقتصادية ناجمة عن ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية والغذائية في السوق العالمية، وكذلك عن ضغوط المديونية العامة وضعف رأس المال المحلي. فتكون الحلول، بالتالي، هي الحلول الليبرالية الجديدة نفسها: بيع الممتلكات الوطنية بحجة سداد المديونية وتقديم التسهيلات اللازمة لجذب الاستثمارات الأجنبية بحجة استقطاب الرساميل وخلق فرص العمل.
كذلك، هناك الحل التقليدي باستقطاب المساعدات مقابل مواقف سياسية. لكن الأزمة من وجهة نظر الفئات الاجتماعية الشعبية هي أزمة اجتماعية ناجمة، بالذات، عن تلك الحلول الاقتصادية. وتثبت المعطيات الرقمية الطابع الاجتماعي للأزمة الأردنية، حيث، في ظل معدل نمو يدور حول 6 بالمئة ـــــ يحصل أغنى 30 بالمئة من الأردنيين على 60 بالمئة من الدخل.
(3) العلاقة بين الأزمة الاقتصادية ـــــ الاجتماعية وأزمة الإصلاح السياسي، هي علاقة افتراضية من أوهام الليبرالية. فمن الممكن، واقعياً، حلّ أي من المشكلتين في معزل عن الأخرى. ولا توجد واقعة تاريخية واحدة تثبت وجود ترابط عضوي بين المسألتين. قد يضطر النظام الأردني تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية إلى إصلاح سياسي شامل يسمح بقيام نظام محاصصة فلسطيني ـــــ أردني في البلاد. وهو ما تريده الليبرالية الجديدة بالضبط، لكن لا شيء يضمن، في هذه الحالة، أن الأزمة الاجتماعية سوف يتم حلها، إذا لم تتفاقم بصورة غير مسبوقة أيضاً. فالأموال الأميركية والعربية الموعودة، في هذه الحالة، سوف تنصب في خزائن الكمبرادور وتقوي نفوذه السياسي، وتسمح لتحالف من الليبراليين الجدد والإسلاميين بالسيطرة على الدولة.
(4) مما له دلالة سياسية عميقة أن «ملتقى وطنياً» يُعقَد من قبل ماركسيين وقوميين في الأردن ـــــ المهدد بمشاريع أميركية وإسرائيلية متصاعدة لشطب الكيان الأردني وفرض صيغة من صيغ الوطن البديل ـــــ لا يذكر ولو كلمة واحدة حول هذا الخطر الأساسي والداهم. فهل يمكننا أن نفسر هذا الصمت بغير القبول؟
وهكذا، ربما يكون بإمكاننا، في الختام، أن نؤكد ما أجّلنا تأكيده حتى الآن. وهو أن ملتقى «الشعبية» الوطني، ليس سوى نشاط في سياق الحملة المضادة التي تشنها الليبرالية الجديدة على القوى اليسارية والوطنية من أجل خلط الأوراق، بعدما اتضح الصراع واتضحت الخنادق.
* كاتب أردني