وهيب معلوف *في كتابه المشوّق «صور المثقّف»، يرى إدوارد سعيد أن «مجتمع اليوم» ما زال «يحاصر الكاتب (المثقف) ويحيط به، أحياناً بالجوائز والمكافآت، وغالباً عبر الاستخفاف أو الاستهزاء بالعمل الفكري بمجمله. وأكثر من ذلك في الأغلب الأعمّ، عن طريق القول إن المثقف الحقيقي يجب ألا يكون «سوى محترف متمهّر في مجاله».
ويضيف سعيد بأنّ أحد أشد ضغوط الاحترافية هو «الانجراف المحتوم لمعتنقيها نحو السلطة ومقتضياتها وامتيازاتها، والعمل في خدمتها». لا مجال إذاً لتجنب علاقة المثقف بالسلطة والقوة. وكل هذا يفضي بنا إلى طرح الأسئلة: كيف يخاطب المثقف السلطة؟ ما هي مسؤولياته؟ وكيف يمكن تحديد العلاقة ما بين «المثقف» و«العام»؟
يرى المؤرخ الأميركي المعاصر هاورد زن أن مسؤولية عامة ضمنية هي «تأمين بقاءنا واستمراريتنا» تقع على المثقفين، بالنظر إلى وجود جمهور عام يسهل خداعه، نحن نُكرم، نبجل، وحتى يُدفع لنا المال، من أجل إنتاج أكبر عدد من الدراسات غير ذي أهمية في تاريخ الحضارة. السياسيون يُدفع لهم لكي يهتموا، فيما هم حقيقة لا يفعلون؛ نحن يدفع لنا لكي لا نهتم، فيما نحن حقيقة نفعل».
يفترض هذا طبعاً بأن المثقفين يمتلكون معرفة خاصة ومفيدة، أو، كما يقترح نعوم تشومسكي، بأن «المثقفين هم في موقع يمكّنهم من فضح أكاذيب الحكومات، وتحليل الأفعال نسبةً إلى أسبابها، دوافعها، ونواياها التي غالباً ما تكون مخفية».
وهذا الموقع معطى لهم من جراء «الحرية السياسية، حرية التعبير والاطلاع على المعلومات».
القدرة على «تقصّي الحقيقة» تعني نوعاً من البراعة الخاصة المربوطة بالخبرة، الإمكانات، والراحة، والتي تنتج ما يمكن تسميته «صوابية الرأي». لا يلمّح تشومسكي كثيراً إلى كيفية تفاعل العوامل السابق ذكرها للوصول إلى «الحقيقة»، إلا أن ذلك يدفع إلى طرح السؤال: أيّ دور يمكن للمثقف العصري أن يلعب في العالم الواقعي؟
يقدم إميل زولا مثلاً مفيداً للبدء في هذا النقاش، إذ استطاع توظيف سمعته ومواهبه الأدبية ليطرح تصوّره لـ«الحقيقة»، وكتب أدباً استطاع تحدي الأفكار السائدة. لكن المفارقة تكمن في أن النفوذ الذي مارسه زولا كصحافي كان مستمداً، إلى حد ما، من منزلته كأديب منفصل إلى حدّ كبير عن أطر الخطاب السائد.
وفيما يستمر كثيرون اليوم بالتشكيك بقيمة معارفهم الاختصاصية، يدعو آخرون إلى تجاوز المعرفة المقصورة على جمهور متخصص وقليل العدد، إلى السعي لمعرفة متاحة للجمهور بمعناه الأوسع، مشيرين إلى أن ماركس، وفيبر، ودوركهايم، مارسوا مهنة فكرية شملت الحقول المعاصرة للتاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد، متحدّين بذلك التجزئة المهنية الضيقة للمعرفة التي نشهدها اليوم.
وينطلق هاورد زن من الخلفية ذاتها عندما يكتب بأن الأكاديمي الذي يريد أن يحدث تغييراً في الفضاء العام عليه أن يصبح «ناشطاً ـــــ أكاديمياً يزج بنفسه وأعماله في الآلية المجنونة للتاريخ، دفاعاً عن القيم التي يؤمن عميقاً بها». كل هذا يفضي إلى أن المثقف العام يمتلك أسلحة المنطق أو الحسّ العام، وهو بحاجة فقط لإيجاد الأرض المناسبة للمعركة والحوافز القيّمة للعمل.
وفي تقديمه لـ«صور المثقف»، يدمج إدوارد سعيد بين فكرتين: الاستعداد للمجازفة الشخصية دفاعاً عن قضايا أخلاقية، وقيمة الانفصال الإرادي عن ميدان السلطة السياسية، ليصف قيمة المهنة الفكرية الحقيقية: «إنها تستلزم حساً كذاك المتوافر عند القادر على تحريك العواطف، وعند العاصي المتمرّد، بحيث يستفيد المرء إلى حد بعيد من الفرص النادرة المتاحة للكلام، ويستحوذ على انتباه الجمهور، ويتفوق على منافسيه في سرعة الخاطر والمناظرة.
وثمة أمر مقلق على نحو جوهري لدى المثقفين الذين لا مناصب لهم يحمونها ولا مناطق نفوذ يعززونها ويحرسونها؛ ولذا فهم يميلون إلى السخرية من الذات ولا يلجأون كثيراً إلى التباهي، والصراحة تغلب عندهم على المواربة والمراوغة. لكن لا مجال لتفادي واقع لا مفر منه، وهو أن مثل هذه الأفكار التي يمثلها المثقفون لن تجعلهم أصدقاء لذوي المراكز الرفيعة ولن تكسبهم الحفاوة والتكريم من الرسميين.
نعم، «إنها لحالة من الوحدانية الموحشة، لكنها دائماً أفضل من تحمل الأمور على علّاتها رغبة في مسايرة الجموع». لم يبدُ سعيد، في كتاباته ومواقفه، مستعداً لاستباق كل ما يمكن أن يدرّه عليه التملق لأصحاب السلطة فحسب، بل، على العكس من ذلك، كان مستعداً لإغاظة أهم رجالات حكومته الأميركية، كما وسائل الإعلام الشعبية، أملاً بالدخول معهم في نقاش كلامي أو للحصول على حيّز في وسائل الإعلام.
وفي هذا الإطار، كثيرة هي الأمثلة على الشجاعة الفكرية لسعيد، إلا أن مقالاً كتبه خلال الأسابيع القليلة التي سبقت الحرب الثانية على العراق يبقى شديد التأثير بالنظر إلى ما نشهده اليوم في ذلك البلد: «أخيراً لقد أصبحت مشاهدة الأخبار في هذه البلاد أمراً لا يطاق. لقد قلت لنفسي مراراً وتكراراً إن على المرء أن يتصفح الجرائد اليومية ويدير جهاز التلفاز لمشاهدة الأخبار كل مساء، فقط ليعرف ماذا تفكر البلاد وتخطط، لكن الصبر والمازوشية لهما حدودهما».
هنا تلتقي مسؤولية سعيد بحدود مقدرته الشخصية، وتدفع به خارجاً إلى الحيز العام: «على كل واحد منا أن يرفع صوته، ويمشي اعتراضاً في التظاهرات، الآن ومراراً وتكراراً. نحن بحاجة إلى تفكير خلاق وعمل جريء لصدّ الكوابيس التي تخطط لها مجموعة من الخبراء الطيّعين في أماكن مثل واشنطن، بكين، أو تل أبيب. ذلك أنه إذا كان هدفهم الوصول إلى ما يسمّونه حالة «أكثر أمناً»، فإن الكلمات لم يعد لها أي معنى على الإطلاق».
بالفعل ، فإن سعيد جسّد الكثير من صفات المثقف العام، أكان من حيث محاولته تطبيق المعرفة الأكاديمية التي راكمها كأستاذ للأدب المقارن على قضايا عملية، أم من حيث توظيفه سمعته المهنية وسلطته ـــــ التي تسمح بها المؤسسة الأكاديمية التي انتمى إليها ـــــ للدفاع عن قضايا غير شعبية، مثل حقوق الفلسطينيين، دافعاً بسبب ذلك أفدح الأثمان. وعمله لمصلحة الشعب الفلسطيني كان، كما يقول، «التزام شخصي لا أندم عليه أبداً».
إنّ مجال الانتقادات لكيفية مقاربة المثقفين للقضايا العامة غالباً ما يعبر عن الانقسام بين مصالح المثقف الأكاديمي والشؤون اليومية للناس الذين يحاول هذا الأكاديمي التكلّم باسمهم. في بعض الأحيان يكون خطاب أو كتابات هؤلاء الأكاديميين مبهمة ومعقدة إلى درجة أن «العام» يشعر بالاستبعاد، عوض أن يشعر بالمساعدة. فعلى سبيل المثال، يتقصّد كتاب مثل هومي بابا وغاياتري سبيفاك استخدام أفكار معقّدة مستقاة من حقلي «التفكيك» والتحليل النفسي من أجل الوصول إلى فهم أفضل للمجتمع الـ«ما بعد كولونيالي». تلك المهمة المتناقضة التي تشمل الكلام من داخل الجامعة واستعمال نظريات معقدة للوصول إلى غايات مفيدة تتم إثارتها اليوم في سياقات مختلفة.
وتقدم الصحافية الأميركية سونيا شاه خير مثال على هذا المنظور: «في الوقت الحالي، الناس يموتون بسسب الرأسمالية الغربية؛ هم يتعرضون للتسمم من جراء الكيميائيات الصناعية ويجبرون على ترك منازلهم بسبب السدود الضخمة. النساء يتم إجبارهنّ على خدمة صناعة عالمية للجنس، والعمل في مصانع يُسخّرن فيها بأجر بخس، والتعرض لتشويهات جسدية موجعة. لسنا بحاجة لأن نعرف الكثير عن كيف يعيش هؤلاء الناس لأن المسألة في الوقت الحالي هي البقاء بحد ذاته (...) وهذا أمر في غاية الأهمية ليترك للمثقفين المتعالين في أبراجهم العاجية».
طبعاً، إن الأمر في غاية الأهمية ليترك لـ«المثقفين المتعالين». لكنه أيضاً خارج حدود مصالح معظم الناس أن يبدأوا بـ«تفكيك» المعلومات المُضلّلة. لذا، يبقى الأمل الوحيد بأن نرى أعمالاً أكاديمية تشهد على القضايا المعاصرة.
* باحث لبناني