كان يمكن جولة وفد الصندوق الكويتي للتنمية على جانبي «خط التماس» في مدينة طرابلس، الأسبوع الماضي، أن تثير مشاعر الاطمئنان في نفوس أهالي باب التبانة وجبل محسن، وخصوصاً أنها تهدف إلى ترميم منازلهم المتضررة. لكن القنابل الليلية التي لا تزال تتساقط على الطرفين، لم تُتح لهم التعلّق طويلاً بـ«حبال الهوى»، في ظلّ إلحاح سؤال عن جدوى إعادة الإعمار قبل وضع حد لتكرار الدمار؟
طرابلس ــ أمل ديب
«سمعنا انو إجا الدعم». بهذه الكلمات يصف أبو محمد، من سكان منطقة التبانة التي لا تزال تعاني و«توأمها اللدود» جبل محسن، ليلياً توترات أمنية، الخبر الذي سمعوه عن جولة قام بها وفد من الصندوق الكويتي للتنمية مع فعاليات المدينة في ديارهم، لتنفيذ مشروع إعادة تأهيل واجهات المباني على جانبي «خط التماس» في شارع سوريا والشارع المقابل له من منطقة جبل محسن.
ويرى أبو محمد، الذي هجّرته الاشتباكات الأخيرة، والعائد منذ يومين إلى بيته في شارع سوريا «بعدما طمأنني الشباب إلى أن الوضع سيهدأ»، أن الخبر دلالة على «أن هناك اتجاهاً لإنهاء الأزمة في طرابلس». مضيفاً «لو الدولة ما بدّا تنهي المشاكل ما قبلت يجي الدعم». ولا شك أن كلام ابو محمد منطقي، لكن، هل فعلاً تفكر الدولة بهذا المنطق السليم؟ هل تظن أنه يجب أن توقف مثلاً القنابل الليلية التي تُرمى من الجهتين، كلّ على الأخرى، قبل أن ترمم الواجهات المتضررة؟.
لا يوافق أغلبية سكان المنطقة على «تحليل» أبو محمد، أكانوا من جهة التبانة أم من جهة جبل محسن. «بدل ما يرمّموا البيوت يرمّموا القلوب»، يقول أحد أصحاب المحالّ التجارية في شارع سوريا ببلاغة. فالأزمة عميقة لا تحلّ بإصلاح البيوت بل بتصفية القلوب. صحيح ترميم البيوت سيسهم في تصفية القلوب، ولكن شرط توقف رمي القنابل الليلية على البيوت المرمّمة.
المشروع الذي «سمع» عنه الأهالي عموماً، يمثّل للكثيرين مجرد «تمويه» عن العجز عن الحل. «لماذا يريدون الترميم قبل المصالحة؟» يسأل هشام الشافعي، صاحب محل أكسسوار سيارات في التبانة. ويضيف بعد تفكير مرجّحاً التفاؤل: «سمعنا أخباراً عن خطة للجيش للسيطرة على المنطقة وإنهاء النزاع»، معتبراً أنه لو لم يكن هذا الحل مرجحاً لما جال وفد الصندوق الكويتي وفكر في ترميم المنطقة. يتدخل أحد زبائن الشافعي معقّباً بغضب «ما بدنا ننهيها». يقول إنه «فقد أعصابه بسبب الوضع»، متّهماً سكان جبل محسن بأنهم خلف تفاقمه. لم يخلُ تدخله من استعراض حين زعم أنه يملك «ذخيرة تفوق قيمتها مئة ألف دولار»، وأنه «مستعد لاستخدامها إن لزم الأمر». وبالطبع، يرفض الرجل مشروع إعادة التأهيل لأنه «لدينا مال للإعمار ولسنا بحاجة إلى أحد».
على بعد خطوتين، تتحلق مجموعة من النساء والشباب أمام المنازل. إحداهنّ تشطف مدخل منزلها من بقايا انهيار حائط بسبب القصف. تركض أخرى وراء طفل يحاول الهروب إلى الشارع الرئيسي محذرة إياه «انتبه... في قنابل»، في إشارة إلى القنبلة التي عثروا عليها ظهراً. الحاجة فضيلة، تراقب بهدوء ما يحصل حولها. تتنهد قائلة إنها عادت أمس إلى المنطقة: «ما بقى معنا مصاري لنستأجر بيت» خارج المنطقة. الحاجة غير مرتاحة لعملية إعادة الإعمار. هي ترى أن الأزمة التي عاشت كل محطاتها منذ السبعينات لا يمكن أن تحلّ بمجرّد إعادة بناء ما تهدّم. «عند أقل سوء تفاهم كل شيء سينهار» تؤكد. بالقرب منها، يجلس شاب ينفخ دخان نارجيلته سائلاً «لماذا يريدون تحسين المنطقة الآن؟ هل انتهى النزاع برأيهم؟»، يسكته والده قائلاً إنهم، أي أهل التبانة وجبل محسن مجرد جياع، خاتماً بالحكمة التقليدية «الزعما بيتفقوا وما بتروح إلا ع الشعب الفقير».
في الجهة المقابلة من الشارع التابعة لجبل محسن، لا يختلف الوضع كثيراً. الخراب، الجدران المهترئة، الحركة الخفيفة، الأولاد في الشارع... «لم نرَ شيئاً» هو ردهم الفوري عندما نسألهم عن المشروع الذي سيقوم به صندوق الدعم الكويتي ولجنة الإغاثة. إحساس بالعزلة يهيمن على أهل المنطقة يعبّر عنه «مواطن» كما أحب أن نسمّيه بدلاً من اسمه الحقيقي. فأهل المنطقة لم ينزحوا على الرغم من كل المخاطر، ولم يتركوا منازلهم منذ أكثر من شهرين. وهم لا يتجرأون أن يقصدوا «البلد» أي طرابلس خوفاً من أن يتعرض لهم أحد. ومع أنهم لم يروا شيئاً، إلا أنهم لا يتأخرون عن مناقشة «المشروع». لا ينكر أحد منهم «فضل الدول العربية على لبنان»، لكن البعض يحمّل «الدولة مسؤولية التقصير تجاه مواطنيها». ويؤكد «مواطن» ثان أن الأولوية هي «لترميم نفوس الناس وإعادة الطمأنينة إلى قلوبنا لتنظيف بيوتنا من المياه الآسنة». كما يستغرب المبادرة لإيجاد تمويل لإعادة البناء فيما «المعارك إسّاتا (لا تزال) مستمرة، ولو بوتيرة خفيفة». ويعود المواطن الأول ليضيف إن الأزمة التي يصفها بـ«القديمة ـــــ الجديدة» يستغلّها السياسيون ويضعونها تارة في قالب طائفي، وطوراً في قالب سياسي، إلّا أن لبّ المشكلة هو اقتصادي بحت يتمثّل في حرمان المنطقة أساسيات العيش. متسائلاً «لماذا نريد بيوتاً مؤّهلة وليس لدينا المال الكافي لنطعم أولادنا». تتدخل «مواطنة» لتعبّر عن استيائها «ما فائدة الإعمار إن كان سيأتي دمار بعده؟» تسأل. لتردف شارحة «حتى الأولاد ما بلعبوا إلّا بالحرب. بيهدّدوا بعضهم وبيسبسبوا (يشتمون)». وتسأل «إذا كان الصغار، أمل الغد، يتكلمون بهذه اللهجة، فماذا ننتظر من الكبار؟». كأن فكرة إضافية طرأت على رأس «المواطن» حين ذكرت كلمة «كبار». يقول «إذا كان المبلغ المخصص للمشروع 100 مليون دولار، رح يصرفوا منهم عشرة على تأهيل البيوت، والباقي لتأهيل الجيوب»، يقول بسخرية.
على انقسامهم، يجمع أهالي منطقتي باب التبانة وجبل محسن على اعتبار مشروع إعادة التأهيل، دعماً أساسياً ولو أنه لا يعوّض تقصير الدولة. لكنهم يجدون، محقين، أنه ينتمي إلى مرحلة تلي المصالحة التي هي أساس أي حلّ.