حاصبيا ــ عساف أبورحالبثّت عودة الأبناء إلى قراهم لقضاء إجازاتهم الصيفية الحياة في شرايينها. جاؤوا طلباً للهدوء والراحة، واستعادت هي بقدومهم دورة اقتصادية افتقدتها نتيجة نزوحهم. إلا أن «النشاط الفوّار» الذي اختبرته القرى هذا العام، والذي يمكن وصفه بالأول من نوعه منذ تحرير القرى الجنوبية، انقلب على المصطافين أنفسهم. فجلسات السّمر الموعودة على وقع موسيقى خافتة تتناهى من «راديو الترانزستور» قد تراجعت أمام «موسم الخصوبة الصاخب». الجميع يتزوّجون، ويحرصون بزواجهم على تحقيق شرط «العلنية» الشرعي، وبأعلى صوت.
تخطّى تقليد إقامة الأعراس اليوم أي حدود قانونية. وبات مصدر إزعاج لا يمكن تجاهله للمقيمين وللمصطافين سواسية.
ففي «الخلوات» قضاء حاصبيا، تجري التحضيرات لإقامة 30 عرساً تباعاً، وفق ترتيب متفق عليه لجهة الحجوزات في القاعة العامة أو ملعب المدرسة. يقابلها أكثر من 25 عرساً في بلدة «الكفير»، ليكون المجموع 55 عرساً لو توزّعت مداورةً. و55 عرساً تعني 55 يومًا من التطبيل والتزمير والمفرقعات المختلفة العيارات المنطلقة بعد منتصف الليل حتى يظن البعض أن قصفاً مدفعياً معادياً يستهدف القرية، أو راجمات صواريخ تصب نيرانها باتجاه مزارع شبعا القريبة! لكن واقع الأمر مغاير تماماً: إنه عرس وما زالت الأفراح في دياركم عامرة!
تقول إحدى السيدات المسنات «أهل الخلوات طوشونا، وأهل الكفير هلكونا». فالبلدتان جارتان متقابلتان يفصل بينهما وادٍ، يرجع صدى رنين الإبرة ليلاً. فكيف لو كان الأمر مربوطاً بأجهزة صوت تبعث إزعاجاً منقطع النظير يتواصل حتى بعد منتصف الليل، محدثاً ضجيجاً يعكّر صفو النفوس ويطرد النعاس من عيون الأهالي؟. ترى زهية أن «أعراس اليوم تحكمها الفوضى المنظمة، بعكس الماضي القريب، حيث كان لها نكهة مميزة، تراعي حقوق الآخرين وتحفظ سير الفرح وأهله». أما المفرقعات الثقيلة العيار، فيجب «أن يحكمها قانون تسهر عليه القوى الأمنية، لمنع إقلاق راحة الآخرين، وخصوصاً في ساعات متأخرة من الليل». هذه الفوضى دفعت بعائلات كثيرة إلى اختصار إجازاتهم والعودة إلى المدينة هرباً من السمفونيات الليلية التي يكاد إيقاعها يؤذي طبلة الأذن، وينشر جواً يفسد السهرات العائلية القروية التي تعقد غالباً على الشرفات وأمام أبواب المنازل.
على أية حال غاب عازفو المنجيرة والمجوز والطبول، وغابت معهم أدواتهم التي بواسطتها كانت تقام الأفراح وسط أجواء هادئة ومرحة، يزينها شعراء حلقات الدبكة والقوّالة، كما غابت تقاليد أخرى هي من صميم تراثنا الشعبي كانت لها مكانتها في الأفراح، وحلت محلها أدوات أخرى هي في نظر الكثيرين مبعثاً للإزعاج والفوضى.