ثلاثة شبّان، خرجوا من مناطق «شعبية»، لا يجمعهم شيء إلا فقرهم ومحاولتهم التسلّل إلى عالم الأغنياء من خلال عملهم في المطاعم الراقية. تنجح التجربة أحياناً وتفشل أحياناً أخرى، ومع ذلك يجد هؤلاء في العمل فرصتهم للانتقال إلى مستوى معيشي أفضل
ليال حداد
لا تبعد منطقة النبعة عن وسط مدينة بيروت كثيراً. يفصل بينهما ربع ساعة في السيارة، وسنوات من التهميش التي جعلت من النبعة أكثر مناطق بيروت «الشرقية» فقراً. بسبب هذا الفقر، ترك جوني قحّو مدرسته، وانطلق بحثاً عن عمل «في عالم الأغنياء»، كما يقول.
هناك في «الداون تاون» وجد جوني فرصته. تقدّم إلى أربعة مطاعم، إلاّ أن أياً من أصحابها لم يقبله، «فهم يبحثون عن طلاب جامعيين، يتقنون اللغات والابتسام الدائم». ثم ابتسم له الحظ في أحد المطاعم «لأنه كان يرغب بتوازن طائفي بين موظّفيه».
شهران مرّا على عمل جوني، إلا أنّه لا يزال يشعر بضيق كبير في كل مرة يدخل فيها المطعم. «أحاول ألا أتكلّم كثيراً، ففي المطعم الذي أعمل فيه سعر قنينة المياه عشرة آلاف ليرة لبنانية، تخيّلي إذاً كيف هم الزبائن». يخاف جوني أن تفضحه لهجته أو أن لا تعجب «السيدات والسادة» الذين يخدمهم، حتى أنّ زملاءه في العمل باتوا يلقبونه «جوني الصامت». لكن رغم هذا الضيق، يتذكّر جوني عدداً من المواقف المضحكة التي صادفته في الأسبوع الأوّل من عمله، حين طلبت إحداهنّ طبقاً من الضفادع، صعق الشاب لأنهّ أساساً لم يكن يعلم أنّ الضفادع حيوانات تؤكل، فدخل «مفجوعاً» عند الطاهي يسأله عن الطبق، ليعلم أنه أغلى طبق في المطعم وسعره 45 ألف ليرة لبنانية «قرب منزلنا بركة فيها ضفادع، نرمي فيها أعقاب السجائر».
أما الحادثة الثانية فهي حين أصرّ جوني على أخذ كل البقشيش الذي تركته إحدى الطاولات التي كان يخدمها لنفسه، وتشاجر مع «الماناجر» أمام باقي الزبائن، بحجة أنّه «بس تجي الإعاشات على حيّنا يلي ما بلحّق حالو بتروح عليه».
يبدو وضع جوني مقبولاً أمام ما عاناه جعفر اللقيس في بداية عمله في أحد فنادق العاصمة. جعفر الذي اقتصرت حياته في سنواتها العشرين الأولى على مناطق الضاحية الجنوبية، وجد نفسه فجأة في مطعم فندق، يخدم فيه المشاهير والأثرياء. لم يرغب جعفر يوماً بأن يكون نادلاً، لكن وفاة ابن عمّه دفعت بالعائلة إلى إجباره على «متابعة مسيرة العائلة في الفندق، بما أن رب العمل كان متعاطفاً معنا بعد وفاة قريبي». هكذا دخل الشاب إلى الفندق، وتلقّى صدمته الأولى حين رأى بعض الصحون التي تُستَعمل وقد رُسِم عليها بخطوط ذهبية حقيقية، «حاولت في المرة الأولى أن أسرق أحد هذه الصحون لأريها لأصدقائي، إلا أنني علمت أنّ المطعم مجهّز بكاميرا مراقبة». لم تنته الحوادث التي صادفها جعفر هنا، إذ تغيّرت أساليب تعاطيه مع العالم، قولاً وفعلاً. ففيما كانت عبارة «والإمام علي» تتكرّر أكثر من عشرين مرة على لسانه، استبدلها بعبارة «والله» بعدما اشتكى عليه أحد الزبائن. ومن بين الأمور الطريفة التي تفادى جعفر تكرارها، كانت تعليقه على سيارات الزبائن «في إحدى المرات لم أتمالك نفسي من القول، إنه على الشخص أن يكون تاجر مخدرات ليتمكّن من شراء سيارة كتلك التي يملكها أحد الزبائن». ولسوء حظّه سمعه أحد الزبائن وتقدّم بشكوى إلى الإدارة.
ومن الضاحية أيضاً، خرج محمّد زعيتر، بحثاً عما ظنّه لقمة العيش. كان محمّد يقضي أيامه على الرصيف «أركيلة وبيبسي، وتلطيش حريم»، يقولها بابتسامة واضحة. كان محمّد يعمل في أحد صالونات الحلاقة ويتابع تعليمه المهني في إدارة الفنادق في أحد معاهد الضاحية. وحين أتت فرصته للعمل في أحد مطاعم منطقة الروشة، تحمّس وترك عمل الحلاقة. إلاّ أن الواقع كان مختلفاً، «يفصل بيننا وبين هؤلاء الذي يرتادون تلك المطاعم هوة كبيرة يصعب ردمها بالعلم والشكل الجميل». لم يتأقلم محمّد مع عمله الجديد، ولم يتقبّل انتقادات الزبائن أو احتجاجاتهم على هفوات في خدمته، فصرخ في وجه «زبونة مهمة كتير بالمطعم» أنه يمكنها تقديم احتجاج إلى المدير إذا لم تعجبها خدمته، «أنا فجّ ووقح وبعلبكي وهيك بحكي». واستمرّ الحظ بمعاكسة محمّد، إذ اكتشف صاحب العمل أنه كان يسرق بعض المشروبات، فما كان منه إلا أن طرده دون دفع بدل أتعابه.


وقفة
بقشيش


يجد أبناء المناطق الشعبية والفقيرة أن العمل في المطاعم، ولا سيّما الفاخرة، الفرصة الأولى للخروج من فقرهم بسبب «البقشيش» المرتفع.
هذا ما حصل مع كل من الشبان الثلاثة الذين قبلوا بالعمل لهذا السبب. لكن الواقع بدا مختلفاً بالنسبة إلى هؤلاء «لأنو كل واحد بزيدو مصرياتو بيصير أبخل».


«المطعم عايش معي»

انتقل أسلوب عمل جوني قحّو معه من المطعم إلى البيت، فأصبح يرتّب طاولة المنزل بطريقة «فنية». كما بات جوني يحمل الصحون والأكواب بالطريقة نفسها التي يتّبعها في المطعم. «صار المطعم عايش معي بالبيت، وما بقبل يكون في شي شاذ على الطاولة»، كما يقول

«غيّرنا الرنّة»

اضطرّ جعفر اللقيس إلى تغيير رنّة هاتفه الخلوي، وهي أغنية لحركة أمل، خوفاً من أن يسمعها المسؤول عن المطعم، رغم أنّ الهاتف يبقى في الخزانات المخصّصة للموظفين، «فالمعلم مناصر لتيار المستقبل، ولن يقبل بهذه الرنّة أو أنّه سيضيّق عليّ في العمل»، يقول
جعفر بحذر