وقع خُطاه ما زال حاضراً على خشبة المسرح. بدأ مسيرته الفنية في خمسينيات القرن الماضي، ليصبح من أبرز الممثلين العرب في السينما وعلى الشاشة الصغيرة. ينظر اليوم إلى مسيرته، فتبدو له حلماً مجنوناً. أما زيارته في دُمَّر، فمغامرة محفوفة بالمخاطر

زياد عبدالله
لا يفكّر خالد تاجا في أن يعود به الزمن إلى الوراء، لكنّه يتمنّى لو أنّه وُلد بعد خمسين سنة: «تكون الجينات قد تطوّرت، وهكذا سأنعم بجسد غير هذا الذي أنا فيه». هذا على رغم أنّه سيفعل الشيء نفسه بالجسد الجديد: سيحمّله أعباء جموحه المتّقد نحو الحياة، ويستهلكه تماماً حتى آخر ذرة لذّة، وحينها سيكون على علماء الجينات إيجاد حلول أخرى لهذا الممثل السوري أو «أنطوني كوين العرب» كما وصفه مرةً الشاعر الراحل محمود درويش.
لا يحبّ خالد تاجا الثلج مع عرق «الريان»، هو يستعمل كؤوساً نحاسية، يدخِّن كقطار، ينفعل، يحتد، يبقي التلفاز على قناة «المنار» أربعاً وعشرين ساعة، لا يتوقّف عن الحديث عن عماد مغنية إلا ليعود إلى ما كتبَه عنه، يقرأه عليَّ للمرة الثانية، ويبقى لصوته أن يسكن عميقاً، ولكم أن تعرفوا وقع هذا الصوت المجلجل.
خالد تاجا عاشق أبدي، متيّم في التاسعة والستين، بكامل عنفوانه وتألّقه وشبابه، هزم السرطان مبكراً، ومن ثم «أم الدم» (تمدد الأوعية الدموية) في عمل جراحي أجري له في مدينة «روستوك» الألمانية، مراقباً كل ما يقوم به الجرّاحون على شاشة أمامه «لا أقبل إلا بالتخدير الموضعي، أكره أن أخدر بالكامل، إنه شيء يشبه الموت».
زيارة خالد تاجا في دُمَّر (إحدى ضواحي دمشق) أمر محفوف بالمخاطر. عليك أن تمشي بحذر داخل البيت، التحف و«الأنتيكات» تحيط بك من كل جانب: «أرفض إجراء لقاءات تلفزيونية في البيت». يخاف أن يكسر أحدهم إحدى تحفه التي جمعها من شتى بقاع الأرض، «كثيراً ما يحدث ذلك حين يحشرون أجهزتهم في البيت».
حبّ التمثيل تملّكه في السابعة عشرة، فبدأ مسيرته الطويلة من خشبة المسرح التي قصدها كاتباً وممثلاً ومخرجاً. لا يمكن حصر الأدوار التي قدّمها صاحب «سائق الشاحنة» أول فيلم أنتجته المؤسسة العامة للسينما في سوريا. فهو منفتح على كل الأدوار، وله أن يدمغها بحضوره الخاص جداً. ما من دور مستحيل بالنسبة إليه، والمشاهد العربي معدّ سلفاً بحب مسبق له، ويقبل كل ما يقدّمه. وعند سؤاله كيف له أن يكون كذلك، يستشهد بجواب راقص الباليه الروسي فاتسلاف نيجنسكي عندما سئل: كيف يمكنك أن تقفز وتدور سبع دورات في الهواء. «لا أعرف. أقفز في الهواء، أعد الدورات فأصل الرقم سبعة فأتوقف وأعود إلى الأرض».
«الممثل ممثل سواء كان على خشبة المسرح أو في التلفزيون أو في السينما. ولا وجود لدور كبير وآخر صغير، هناك ممثل كبير وآخر صغير». هكذا يقارب تاجا عالم التمثيل، ويحرص دائماً على كسر النمطية. هو «البطل النقيض» الذي يرفع حاجبه، ويلقي تلك النظرة الخاصة في أفلام تجاوزت العشرين من إنتاج القطاع الخاص في سوريا. «لكنني هربت من هذا التنميط، قاومت مسألة أن أُحصر بهذه الشخصية. هناك ممثلون أمضوا حياتهم في الهرب من حصرهم في شخصية واحدة لا غير».
أي سرد لمسيرة هذا الفنان سيكون سريعاً وموجزاً، مقارنة بما قدمه لأكثر من خمسين سنة. وقع خطاه ما زال حاضراً على خشبة المسرح، عشقه الأول. وتجربته السينمائية ريادية كونه أدّى البطولة في فيلم «سائق الشاحنة»، مضافةً إليها أدوار سينمائية كثيرة في «رجال تحت الشمس» و«الفهد» وغيرهما الكثير... حين كان نجماً سينمائياً. ليس له أن يجد في الدراما التلفزيونية ما يلبي طموحه، لكنّه ــــ رغم توقفه عن التمثيل لفترة طويلة ــــ عاد وظهر، لكن هذه المرة عبر الشاشة الصغيرة. ولعل ظروفاً كثيرة أسهمت في ذلك. فمع تراجع الإنتاج السينمائي السوري، واندثار القطاع الخاص، وبداية الإنتاجات الدرامية، جاء تاجا متخفّفاً من تاريخه الطويل، وراح يتحول إلى العلامة الفارقة في الدراما السورية مجسّداً مقولته «الممثل ممثل....»، منوّعاً على جميع الأدوار: من سهرة تلفزيونية حملت اسم «خريف العمر» حتى الآن، ونجمه لا يغيب عن إنتاجات الدراما السورية. يكفي أن نستعيد أدواره في «نهاية رجل شجاع» و«الزير سالم» و«التغريبة الفلسطينية» وغيرها، لنكتشف كم هي ماثلة في ذاكرة المشاهد العربي.
يشعر المشاهد وهو يشاهد تاجا أنّه قادر أثناء تأدية الدور على أن يستحضر كل موهبته وثقافته ومخزونه دفعة واحدة، ويدفعنا للاعتقاد بأنّ الأمر لا يستدعي عناءً كبيراً، هذا «لأنّني أجد في التمثيل هواية، وعشقي للتمثيل لم يصل درجة الهيام، لكنه بالنسبة إلي حالة فرح، حالة تفريغ للهموم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بي، بحيث أكون جديداً على الدوام». ويستشهد بالكاتب المسرحي هنريك ابسن: «كان ابسن يضع عقرباً في زجاجة، وحين يمتلئ بالسمّ كانت تصدر عنه أصوات غريبة، فيقرّب قلم رصاص منه، ويفرغ كل سمه بهذا القلم». ويوضح تاجا «حالنا نحن الفنانين كحال هذا العقرب، فنحن نعطي البشر جرعة سمّ تصيبهم بالحمى، وإن كان الفن خالياً من أي مشروع، فلا أستطيع تسميته فناً».
شخصية الحارث بن عباد التي قدمها في «الزير سالم» (إخراج حاتم علي)، أرضت بعض مطامحه الشكسبيرية، فهو كما يقول حين قرأ النص الذي كتبه الشاعر الراحل ممدوح عدوان «رأى هاملت يطل برأسه من شخصية ابن عباد». يبقى الحلم بتقديم لير وعُطيل وغيرهما على خشبة المسرح حاضراً لديه بقوة، إلا أن شروطه الصارمة لتجسيد تلك الشخصيات الشكسبيرية منعته من خوض التجربة. حالياً، يعمل تاجا مع أحد نصوص عدوان، «مأساة لير»، لتقديمه تلفزيونياً بشكل معاصر، لكن العمل لم يبصر النور بعد. كما يعمل مع الكاتب حسن م يوسف على تقديم دون كيشوت معاصراً أيضاً، وسيبدأ تصويره العام المقبل. ويعلّق بأنّه إن قدّم لير أو دون كيشوت كما يطمح، فإنّ ذلك سيكون إنجاز العمر.
ما يؤرق خالد تاجا كثيراً، هو الأمور التي فرضتها عليه الحياة مسبقاً: «لم أختر اسمي، ولا عائلتي، ولا بلدي... عليّ إذاً أن أختار موتي». وقد انتهى فعلاً من تجهيز قبره، وخطّ على شاهدته «مسيرتي حلم من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثم مضت». وتحت تلك العبارة نقرأ: «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا». للموت أن يأتي متى يشاء!


5 تواريخ

1939
الولادة في حي
«ركن الدين» الدمشقي
1957
بداية حياته التمثيلية
مع فرقة «مسرح الحرية» التي
ضمّت نخبة من الفنانين الكبار أمثال صبري عياد، حكمت محسن، أنور البابا، وكان يرأسها عبد اللطيف فتحي
1966
بطولة فيلم «سائق الشاحنة»
أوّل إنتاجات المؤسّسة العامّة في سوريا (إخراج بوشكو فتشينكش)
1969
بطولة فيلم «رجال تحت الشمس»
(عن رواية غسان كنفاني، إخراج نبيل المالح/ مروان المؤذن/ محمد شاهين)
2004
اختارته مجلة «تايم» الأميركية من بين أفضل خمسين ممثلاً في العالم