إنتهت أعمال بعثة المتحف البريطاني في صيدا بعد عدة أسابيع من الحفريات وكانت النتيجة مزيد من الإيضاحات حول تاريخ المدينة عبر الآثار المكتشفة
جوان فرشخ بجالي
بعد عشر سنوات من العمل في صيدا، وبفضل الحفريات العلمية لبعثة المتحف البريطاني، بدأت صورة تاريخ المدينة تتضح تماماً. ففي الموقع الممتد في أعلى التل الأثري، الواقع بين القلعة البرية ومتحف عودة للصابون، اكتشف العلماء البقعة التي كانت تُستعمل فقط للطقوس الشعائرية على امتداد 3500 سنة. وتقول الدكتورة كلود ضومط سرحال، مديرة التنقيبات في صيدا: «لقد تغيرت نظرياتي بالنسبة إلى هذا الموقع. ففي بداية الحفرية كنت أعتقد أننا في وسط المدينة وأن الغرف المكتشفة هي لبيوت السكان القديمين، ولكن ذلك خطأ. فهذا الموقع لا يشمل أي مسكن، إنه مركز الشعائر الدينية ومدافن المدينة لأكثر من ألف سنة».
وتتحلى الدكتورة سرحال بالقدرة على الاعتراف بأن نظرياتها الأولى لم تكن صائبة، وتقول ضاحكة: «لا أزال هنا على الموقع، وها أنا اليوم أنظر إليه بشكل مختلف، ما يعني أن طريقة التطرق للمعلومات ستختلف وتتطور بحسب الاكتشافات».
ومما عثر عليه الفريق من معالم أثرية تصور تاريخ صيدا يمكن تقديم قراءة على الشكل الآتي:
في العصر النحاسي (3500 ـــــ 5500 قبل الميلاد) سكن الإنسان في منطقة الدكرمان المجاورة للبحر (أمام مكب صيدا الحالي للنفايات) وبنى هناك قريته ودفن أمواته داخل بيوته. ثم في العصر البرونزي (1200 ـــــ 3500 قبل الميلاد الذي يعرف باسم الفترة الكنعانية) ترك الإنسان القديم منطقة الدكرمان وبدأ موطنه في مدينة صيدا القديمة، واستعمل منطقة التل المرتفعة، لعدة غايات بحسب تطلباته. ففي العصر البرونزي القديم (2000 ـــــ 3500) بنى أهراءات ضخمة في تلك المنطقة. فقد عثر أعضاء الفريق على مبنى مؤلف من 26 غرفة تخزين خبأ في داخلها الأهالي القمح الذي عثر عليه محروقاً.
ثم في العصر البرونزي الأوسط (1500 ـــــ 2000 قبل الميلاد) تغير استعمال الموقع وأصبح جنائزياً. فقد غمر أهالي صيدا مبنى الأهراءات وكامل الموقع بالرمل. وتؤكد سرحال أن «الأهالي عملوا على إحضار الرمل من شاطئ البحر، حملوه وأتوا به إلى هذه المنطقة، لأي غاية؟ لا نعرف ولكنهم استعملوه لدفن أمواتهم في قبور مبنية من الحجارة أو في أجرار جنائزية. حفروا في الرمل وبنوا المقابر أو وضعوا الأجرار التي تحوي في داخلها الأموات وبالقرب منهم القرابين من لحم حيوانات وأوانٍِ فخارية. 95 مقبرة عثر عليها العلماء حتى اليوم. رجال، محاربون (وضعت قرب رأسهم سهام حرابهم)، بعضهم من النسوة والأطفال اليافعين، حتى إن هناك جنيناً». وحين تصف سرحال الاستعمال الجنائزي للموقع في هذه الفترة تقول إنه «كان بمثابة مقبرة «حية». فقرب كل جرة أو قبر عثرنا على تنور لتحضير الطعام، وفي داخله عظام حيوانات محترقة. وهناك جدران صغيرة وأخرى كبيرة، وأرضيات لم تنتهِ، وتنور فوق آخر. كلها تفاصيل تشير إلى أنه في الحياة اليومية كان هذا المكان مقصوداً بلا انقطاع من سكان المدينة. يأتونه لدفن أمواتاهم، ولا يتأخرون عن بناء حائط حينما يرونه صائباً، أو أرضية للجلوس وإقامة الطقوس الشعائرية التي كانت حتماً مرتبطة بمآدب الطعام». وهذا ما تؤكده دراسة عظام الحيوانات على الموقع التي باتت سرحال تراها حجراً أساساً لفهم الموقع. وتقول جوان شحود، طالبة الدكتورة والمختصة بعظام الحيوانات «إن هناك كميات هائلة من العظام المكتشفة على الموقع. البعض منها عثر عليه داخل تنور مبني قرب القبر الذي غالباً ما كانت تحرق فيه الذبائح وتقدم للآلهة فتتلف العظام المحترقة. والبعض الآخر لعظام محروقة أطرافها فقط، ما يعني أن جزءاً من الحيوانات كان يؤكل خلال الدفن، في المآدب الجنائزيّة بعدما يشوى على النار».
وبقيت تلك العادات سائدة في الموقع حتى خلال فترة العصر البرونزي الحديث (1200 ـــــ 1500)، حينها تغير استعمال الموقع من جديد. فبنى أهالي المدينة مبنى ضخماً يصل طوله إلى 45 متراً. ويعتقد علماء الآثار بأنه معبد المدينة. وتقول سرحال: «لقد عثرنا داخل المبنى على 500 سراج، ما يدعو إلى التساؤل، عمّا إذا كانت الشعائر الدينية تُمارَس فقط في الليل، أم أنه لم يكن للمبنى أية نوافذ؟». أسئلة ستبقى لغزاً، إذ إن المبنى مدمر، ولن يعثر العلماء على جدرانه لتحديد إن كان فيها نوافذ أو لا. وكان قد عثر أيضاً في أرض المعبد على كمية هائلة من الصحون المكسرة وعظام الحيوانات (وخاصة الماعز والأغنام)، ما يشير إلى أنه كانت تُقام في المعبد المآدب الاحتفالية الواحدة تلو الأخرى. ولكن طقوس الدفن توقفت على هذا الموقع، وتحولت نحو مقابر الدكرمان.
هل تغيرت العادات وبدأ الناس يدفنون أمواتهم في مقابر بعيدة عن المعبد ثم يعودون إلى المعبد لإقامة الطقوس؟ تساؤل تجيب عنه سرحال قائلة: «نظرية نطرحها الآن بعد عشر سنين من الحفريات والدراسات، ولكن لن يجري تأكيدها إلّا حين ينتهي العمل خلال السنوات المقبلة».


«صيدا 5000 سنة»... وثائقي عن الحفرية ونتائجها

في خطوة هي الأولى في لبنان، حمل مدير حفرية أثرية كاميرا التصوير، مضيفاً إلى مهماته المتعددة واحدة تشمل تصوير الموقع والحفريات والاكتشافات، بهدف إنتاج فيلم وثائقي. ولكنّ الدكتورة كلود ضومط سرحال قامت بتلك المهمة طوال 10 سنوات من العمل، وأرّخت بالصوت والصورة بعضاً من الاكتشافات والدراسات التي قام بها الفريق العامل.
في ذكرى مرور عشر سنوات على بدء العمل في الحفرية، قررت سرحال أن تنتج الفيلم الذي كانت قد تبنّته حتى قبل ولادته. فأتت النتيجة مرضية جداً من ناحية المعلومات العلمية التي يحتويها الوثائقي، ولكن العمل لا يخلو من المشاكل من ناحية الإخراج، في الإضاءة والهندسة الصوتية، إضافة إلى «روتينية» المشاهد التي تصوّر التنقيبات. وكان لقرار سرحال حمل الكاميرا والاختفاء خلفها سلبيات كثيرة انعكست على فحوى الوثائقي. فشغف سرحال بالموقع وبالحفرية وبنتائجها وطريقة اطّلاعها على الإنجازات كانا ليضفيا على الوثائقي وجهاً إنسانياً ينقصه بحدة.
سيناريو هذا الوثائقي يذكّر كثيراً بالمنشورات العلمية، وخاصة أنه يركّز على نتائج الدراسات. ولكنّ اللافت للنظر كان الجهد المبذول لتقديم المعلومات العلمية بلغة بسيطة يفهمها المشاهد غير المتخصص. فأمام هيكل عظمي لامرأة اكتشف في صيدا، يشرح رئيس مختبرات العظام في جامعة برادفورد الإنكليزية ــــ حيث تدرس العظام ــــ عن مشاكل تلك المرأة الصحية جرّاء الحياة الصعبة التي عاشتها، وكيف أن عظام الرقبة قد تقارب بعضها من بعض، لأن تلك المرأة حملت حمل جرار الماء الثقيلة على رأسها، وشرح أيضاً كيف التهم عظامها مرض داء المفاصل. هذه دراسة أعادت للهيكل العظمي، أمام الكاميرا، حياته الغابرة التي لم تؤرّخ إلا في العظام المتآكلة.
وفي مرحلة أخرى من الفيلم، تحاول سرحال شرح الاكتشافات الأثرية حول معبد كبير، فتقدم للمشاهد إعادة تكوين للشكل الهندسي للمعبد، بشكل ثلاثي الأبعاد منتج على الكمبيوتر، فتأتي النتيجة ناجحة. إذ يفهم المشاهد كيف أن الأحجار والجدران، التي قد لا تعني شيئاً للزائر العادي، إذا خضعت للتنقيب العلمي، فإنها تكشف ألغازاً.
إذا نظرنا إلى هذا الوثائقي كتجربة هي الأولى من نوعها في لبنان ــــ إن على صعيد الحفرية أو على صعيد العمل الشخصي لسرحال ــــ فالفيلم ناجح ويصل إلى هدفه المنشود: أي إخبار قصة صيدا، وعرضها على الطلاب، أو في الأندية الثقافية، وهو أمر يسهم في نشر ثقافة حماية الآثار والمواقع والحفريات، ويعرّف بتاريخ كان لا يزال مجهولاً لولا عمل الفريق في صيدا. والفيلم (كما الحفرية) تمّ بفضل تمويل خاص من الشركات الآتية: مؤسسة البيوت القديمة، مؤسسة فارس، الشركة الوطنية للترابة، Murex، مؤسسة الحريري.


طلاب المدينة يشاركون في الحفرية

كان لإنتاج الفيلم الوثائقي «صيدا 5000 سنة» وقع مهم من الناحية التربوية، فقد طلبت النائبة بهية الحريري من «شبكة مدارس صيدا عرضه على الطلاب». عُرض الفيلم في 165 مدرسة، ما سمح للأولاد في صيدا بالتعرف إلى تاريخ مدينتهم، بشكل لم يسبق أن رأوه من قبل، وبالطبع كان ذلك مدعاة للفخر بالنسبة إليهم. وهذا ما سمح لمديري المدارس بالقيام بحملة جمع تبرعات للحفرية وصلت قيمتها إلى 35000$ إضافة إلى أن 12 تلميذاً من ثانوية الحريري قدموا إلى الحفرية وشاركوا بكل الأعمال خلال يوم واحد. وكان الاتفاق أن يتوقف المشروع هناك، إلا أن اثنين من الأطفال «تُيِّما» بالعمل الأثري وأصرا على المجيء يومياً إلى الموقع، وعلى المساعدة بالحفريات لمدة أسبوع تقريباً.
والجدير بالذكر، أن الشعور بأهمية الحفرية لم يكن حكراً على هؤلاء الأطفال، فطلاب الثانوي في بعض مدارس صيدا قرروا الالتحاق بالحفرية والمطالبة بالعمل فيها. فكان لهم ما أرادوا وانضموا إلى فريق العمال الذين شاركوا هم أيضاً بعرض للوثائقي في قاعة غرفة التجارة والصناعة في صيدا الذي شارك فيه رئيس المجلس البلدي. وقد أعطتهم هذه المشاركة بالحفر شعوراً بالانتماء إلى فريق كبير ومشروع ضخم. وتقول الدكتورة سرحال «إن الجو في الحفرية هذه السنة مختلف، فالكل يدركون أهمية عملهم، والكل فرحون وفخورون بأن يكونوا جزءاً من هذا المشروع العلمي». وهنا تجدر الإشارة إلى أنها المرة الأولى في لبنان التي يقوم فيها فريق أثري مختص بخطوة نحو سكان المدينة لإطلاعهم على المكتشفات وعلى تاريخهم لإشراكهم بالحدث. مع العلم بأن هذه الطريقة في التعامل مع السكان أصبحت متبعة في الغرب وتعرف باسم «علم الآثار في خدمة المجتمع».