strong>هشام نفاع *45 شخصاً على متن سفينتين منزوعتين من أيّ سلاح، نجحوا في كسر شيء من الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة. بعد سنة ونيّف على إعلان الحصار الإسرائيلي وفرضه رسمياً، بعدما كان يُمارس دون رسميات زائدة، وإن بوسائل القمع نفسها، كان يكفي رفع يد شجاعة غير مسلَّحة إلا بإرادة حرّة وضمير حيّ، كي تنكسر إرادة الاحتلال، ولو رمزيّاً. من اليونان إلى كريت فقبرص، جالت السفينتان على وقع تصريحات إسرائيلية رسمية متعجرفة تؤكد النيّة بمنع الناشطات والناشطين من تحقيق غايتهم. قبل 48 ساعة من موعد وصولهم، ازداد الرفض الإسرائيلي حدّة، لكنه راح يخفّ رويداً رويداً حتى تلاشى مع اقترابهم من شواطئ فلسطين، ليس قبل أن تجد المؤسسة ذريعة لهذا التحول بزاوية 180 درجة. فلم يكن لدى موظّف الخارجية الإسرائيلية الذي أرسلوه لإعلان التراجع سوى هذه الجملة البليدة: «يريدون استفزازاً في البحر، لكنهم لن يحققوا مبتغاهم. نعلم من هم ركاب السفينتين وما تحملان، لذلك لا نرى أي مشكلة في تركهما تدخلان».
إذن فالاحتلال الإسرائيلي «انتصر» لأنه تفادى «استفزازاً في البحر». لكن السفينتين لم تخططا للوصول إلى بحر، بل إلى شاطئ غزة! يا لركاكة صياغة «الأقوياء» لتراجعاتهم الاضطرارية.
الخطوة الشجاعة التي نظمها ونفذها الناشطون الأمميون ليست يتيمة. بل إنها استكمال ذو خصوصية، نظراً لفرادة الخطوة، لنشاط أممي ميداني تقوم به ناشطات وناشطون دعماً لقضية تحرر الشعب الفلسطيني. فمنذ أولى سنوات الانتفاضة الثانية (أو الأدق: العدوان الاحتلالي الإسرائيلي المفتوح على الشعب الفلسطيني)، لم تتوقف الوفود التضامنية الأممية عن المشاركة في تظاهرات واحتجاجات ونشاطات دعم في شتى المناطق المحتلة 1967. التقيتهم مراراً في قلب مسيرات وتظاهرات وهم يطرقون بالحجارة حديد جدار الفصل العنصري أمام جنود جيش الاحتلال، يتحدّون الحواجز، يرافقون الفلاحين إلى كروم الزيتون؛ شابات وشبان بالأساس، إلى جانب ناشطين أكثر تجربة، تلتمع عيونهم بشجاعة وهم يواجهون بأجسادهم، كتفاً إلى الكتف الفلسطينية، وسائل القمع الاحتلالية؛ بعضهم يمكث أسابيع وأشهراً في مدن فلسطينية وفي قرى نائية مؤازراً متضامناً، دون لهاث خلف منبر إعلامي ولا بغية جني مردود سياسيّ للاستثمار الشخصي.
من دون ربطات عنق، ولا بذلات فرنسية، ولا أحذية طليانية، بعيداً عن المكيّفات وندوات طحن الكلام، كان هؤلاء يحوّلون أجسادهم إلى دروع واقية تجعل جيش الاحتلال يتردد قليلاً في فتح النار «لضرورات دبلوماسية» مفهومة.
هذا النشاط الدؤوب للناشطين الأمميين كان أحد الروافد التي أبقت القضية الفلسطينية ماثلة في الأذهان كقضية تحرر إنسانية تستوجب دعم شعوب العالم لها. فبعدما غاصت السياسة الفلسطينية الرسمية في أروقة المفاوضات العقيمة التي يظللها شبح جورج بوش القاتم، من جهة، وبعدما راحت تخنق نفسها نتيجة لحرب «فتح» و«حماس» على مجد سلطة وهمية تحت الاحتلال، وسط غياب صوت فلسطيني ثالث تقدمي، من جهة أخرى، بهتَ وهج عدالة هذه القضية، وخصوصاً بعد سنوات عجاف من محاولات حشر النضال الفلسطيني في خانة «الإرهاب» و«الحرب على الإرهاب» Made in USA.
هنا، كانت التحركات الميدانية الشعبية الفلسطينية بارقة أملٍ في الإبقاء على حقيقة القضية وعدالتها. وهي كانت بأمسّ الحاجة إلى مشاركة أممية، وأخرى إسرائيلية تقدمية، حتى لا يسارع الجند إلى ضغط زناد البنادق، وحتى ينقل الأنصار حقيقة الجريمة المرتكبة لشعوبهم. فقتل الفلسطيني لا يحتاج إلى تفسيرات، بينما قتل متظاهر أممي أو إسرائيلي كان سيضع جهاز الاحتلال أمام مساءلات. بمفهوم ما، لم يؤدِّ الناشطون المتضامنون دور «حاقن الدماء» بأدوات الإدانة والشجب، بل بالمشاركة الفعلية الميدانية أمام العسكر. بعضهم لم يسلم وسقط بنيران إسرائيلية على الأرض الفلسطينية مثل راشيل كوري وتوم هرندل.
بعض الردود الفلسطينية على خطوة ناشطي السفينتين يستحق وقفة وبعضَ استطراد. أحد ممثلي «حماس» قال إن «هذه الفعالية رسالة للاحتلال بأن شعوب العالم لم تعد تحتمل استمرار الحصار على مليون ونصف مليون فلسطيني». صحيح، ولكن هلاّ تمعّنت الحركة في فاعلية وأثر التعويل على شعوب العالم وضمائرها، بدلاً من الإسراف في الشعارات والممارسات العضلاتية التي لا تجمعها استراتيجية منظمة؟
ما العمل؟ من الواضح أن هناك الكثير من العمل، أوّله تحرير القضية الفلسطينية من مخالب السياسة الأميركية الرسمية (أي من المخالب الإسرائيلية أيضاً، بالضرورة). لأن واشنطن الرسمية هي النقيض التام لكل ما هو دولي وإنساني. جميلٌ أن نأمل، لكن لا يصحّ دوس آمالنا بأعمالنا الخاطئة. لا يصحّ ولا يجوز.
إن النشاطات التضامنية الأممية مع الشعب الفلسطيني ونضاله ليست مسألة رمزية فحسب. بل حققت نتائج حقيقية على درب كسر أسطوانات الديماغوجيا الإسرائيلية الرسمية. فهذه الأخيرة أرادت استغلال ما بعد 11 سبتمبر 2001 لتقف في صفّ «محاربي الإرهاب». إنه خطاب يبحث عن «نقاء»، فلا يصحّ أن يوجد متضامن أوروبي أو أفريقي أو أميركي أو إسرائيلي أو أيّ كان في تظاهرة فلسطينية في قرية بلعين مثلاً، لأن خطاب «الإرهاب» سيتضرّر عندها. من هنا، ليس صدفة أن سلطات الاحتلال وضعت «قوائم سوداء» بأسماء ناشطين أمميين احتُجزوا في المطار، ثم التحقيق معهم، وفي حالات كثيرة طردهم على متن أول طائرة مغادرة. مثله أيضاً، ذلك الأمر العسكري الذي يمنع دخول الإسرائيليين (ما عدا المستوطنين طبعاً) إلى «مناطق أ» الفلسطينية وفقاً لاتفاق أوسلو، أي تلك الواقعة تحت «سيطرة مدنية وأمنية فلسطينية». جميع هذه الخطوات أرادت تنظيف الميدان حتى يُشَيَّد بنيان «خطاب الإرهاب» عليه. بالمناسبة، هذه هي الأرضية المفهومية لإقامة جدار الفصل العنصري، وإن كان يخدم أهدافًا سياسية ــ توسّعية إضافية.
في اجتماعات الحركات الراديكالية الإسرائيلية والأممية المناهضة للاحتلال كان يتردد دائماً، قبيل تنظيم النشاطات: واجبنا هو كسر تكتيك الفصل الذي يفرضه جهاز الاحتلال، فنشاطات مثل اجتياز حاجز عسكري والوصول إلى قرية فلسطينية ما والقيام باحتجاج مشترك، هو أقوى ضربة نوجّهها إلى سياسة الاحتلال. هذا التوجّه وجد اعترافاً واضحاً بصحّته، من خلال ما جاء على لسان رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي في حينه موشيه يعلون. إذ قال ما معناه: إن الإسرائيليين والأجانب الذين يجتازون الحواجز ويتعاونون مع الفلسطينيين هم أكثر من يضرّ بخطط الجيش. وبالطبع، فضرب خطط قمعية لأي جيش احتلال أينما كان، هو «ردّ فعل مساوٍ في القوّة ومعاكس في الاتّجاه» ــ لأجل شق طريق نحو سلام عادل.
* كاتب فلسطيني