سعد الله مزرعاني *باستثناء أقلية من المنخرطين، يمثّل تنامي الانقسام المذهبي (تداعٍ طبيعي ومتوقع عن الانقسام الطائفي) عامل قلق كبيراً بالنسبة إلى الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. هكذا هو واقع الحال. أو هكذا يجب أن يكون. فليس لأي مواطن لبناني أن لا يخاف على مصير وطنه، وعلى مصير عائلته، وأيضاً على مصيره الشخصي، وهو يشاهد أو يعاني مباشرة، أو يسمع، ذلك الخطاب المذهبي وقد أفلت من كل عقال، على شاشاتنا وفي ساحاتنا وفي مجالسنا وفي استعداداتنا وتحضيراتنا.
لم يعد عدد كبير من المشاركين في اللعبة المذهبية يخشى من حساب أو عقاب أو رادع من ضمير أو قانون. ويجد التعصب المذهبي طريقه إلى مزيد من الذين تنعدم لديهم الخيارات البديلة، أو الذين يعجز ما حصلوه من رصيد وعي، عن تمكينهم من تمييز صحيح للمواقف والتوجهات من خاطئها.
ويتغذى كل ذلك من قوى خارجية مستفيدة. إنها تقدم الدعم وتواصل التحريض، وتصعّد من التعبئة، وتمدّ بالسخيّ من الأموال والأسلحة.
ولقد بات المراقبون (بل حتى المواطنون) يربطون، دون عناء، بين تحول بعض التصعيد المذهبي إلى نوع من الفحيح، مريض ومسعور، وما بين «قبضة» كبيرة أو صغيرة، تبذل لهذا أو ذاك، من التيارات والأدوات والأزلام والقبضايات.
تحصل هذه العملية بالترابط وبالتزامن مع احتدام الصراع السياسي على الخيارات السياسية العامة، وعلى التحالفات الخارجية، وعلى مواقع النفوذ الداخلي، السياسية والأمنية والإدارية والخدماتية. ورغم أهمية إنجازات اللبنانيين، وخصوصاً في حقل مقاومة العدو الصهيوني وتسجيل انتصارات باهرة وغير مسبوقة على هذا العدو، تطفو الطائفية والمذهبية على سطح الأحداث وتمعن تمزيقاً في الجسد اللبناني.
ويطرح هذا الواقع، بإلحاحية استثنائية ضرورة التمعن الشديد والعميق في النتائج المتفاقمة للعامل الطائفي، على مجمل المصير اللبناني. وليس استنتاجاً متسرعاً القول إن لبنان الآخذ بالنظام الطائفي والمذهبي، لم يتمكن من أن يتحول إلى وطن حصين وموحّد وقادر على التطور والتقدم والاستقرار والازدهار. إنّ لبنان الطائفية والمذهبية ما زال وطناً قيد الدرس. وهو في امتداد ذلك وبسببه، وطن ضعيف، هش، منقوص السيادة من الداخل ومن الخارج.
ولا تستهدف المناخات المذهبية المتعاظمة إنجازات اللبنانيين في حقل المقاومة فحسب. إنها تستهدف كل إنجازاتهم الأخرى أيضاً، في حقول التنوع والتعدد والانفتاح والتسامح والديموقراطية. ولا ينطبق هذا على بيئة دون سواها ولا منطقة دون أخرى. إنه مناخ يسري كما النار في الهشيم، ليدفع إلى الواجهة أكثر العناصر سوءاً وسلبية وتدميراً. وهو يستدرج في مجرى تناميه من هنا أو من هناك، ردود فعل مشابهة. وحصل وسيحصل ذلك بالضرورة، على حساب القوى والعناصر الإيجابية والمحاورة والحريصة وذات الهواجس والهموم والأولويات الوطنية والقومية والتحرريّة.
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ تنامي المعضلة الطائفية والمذهبية، كان على علاقة وثيقة بعدم معالجتها. وعدم المعالجة أخذ غالباً، صيغة عدم احترام النصوص التي أكدت أنّ الأخذ بمبدأ التوزيع الطائفي والذهبي هو عملية محدودة ومؤقتة. لقد وصف البيان الأول لحكومة الاستقلال اعتماد المبدأ الطائفي بـ«العار» الذي يجب التخلص منه سريعاً. واقترنت صيغة الأخذ به في الدستور بعبارة «بشكل مؤقت». وبعد معاناة الحرب الأهلية (1975ـــــ1989)، كاد جوهر اتفاق «الطائف» وروحه أن ينعقدا على مسألة التخلص من الطائفية. فالتعديل العادي السابع (بموجب القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21/9/1990) شدّد بعد تأكيد «المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل»، على أنّ «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية».
وقد تولّت المواد الدستورية 22 و24 و95 تحديد الآلية والمواعيد الواضحة والملزمة للانتقال إلى استكمال بناء النظام المدني، أي تحرير النظام السياسي من القيد الطائفي في مجلس النواب، وبالتالي، في باقي السلطات: التنفيذية والقضائية والإدارية.
أمّا الهواجس الطائفية ذات الجذر التاريخي والممتدّ إلى يومنا هذا، فتجد مكاناً لها في مؤسّسة دستورية خاصة هي «مجلس الشيوخ» الذي «يستحدث... وتتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» (المادة 22 من الدستور).
لا نجترح اكتشافاً إذا لاحظنا أن الطائفية والمذهبية قد تحولت إلى وسيلة وأداة، ومن ثم تمأسست بوصفها صيغة تتوسّع وتتأبّد وتستمرّ خلافاً للنصوص الدستورية التي جسّدت المصلحة الوطنية. ولقد استمرأ السياسيون اللعبة الطائفية والمذهبية ودفعوا بها إلى النهاية على ما نشهد ونعيش ونعاني حالياً. وهذا هو الوقت المناسب والملح والمصيري من أجل «وقفة» مع هذه المعضلة.
تُطالَب بذلك تحديداً وأساساً، القوى التي تتعدّى أهدافها تحقيق المكاسب الفئوية عن طريق مواقع السلطة في لبنان وتعزيز هذه المكاسب من خلال تصعيد الصراع ذي الطابع المذهبي والطائفي وإحداث خلل في توازناته بالاستناد إلى الإمكانات الداخلية أو باستدراج دعم القوى الخارجية وتدخلها.
إنّ ثنائية أو ازدواجية استخدام العامل الطائفي والمذهبي، لم تعد مسألة تحتاج إلى برهان. وربما كان العنصر «الإيجابي» في هذه العملية، وهو تعبئة جماهير واسعة في المعركة ضدّ العدو الإسرائيلي، قد استنفد غايته. ولم يبقَ من العاملين الطائفي والمذهبي إلا الوجه القاتم والشديد السلبية والكثير الأضرار والدمار.
ويملي ذلك صياغة مقاربات جديدة للتعامل مع الطور الراهن والكامل السلبية من التعبئة الطائفية والمذهبية. ولا نحتاج إلى «طرف زرقاء اليمامة» (أعرابية كانت ذات بصر نافذ واستثنائي) لنكشف أنه من العراق إلى لبنان تمثّل استثارة الانقسامات المذهبية والطائفية وتأجيجها، الأدوات التي يعوّل الغزاة الخارجيون والمغتصبون الصهاينة على مفعولها، في إضعاف شعوب المنطقة وفي إخماد مقاومتها، وفي تشتيت قواها وتحويلها في غير وجهتها الصحيحة، وصولاً، في آخر الأمر إلى السيطرة عليها والتحكم بمصائرها وثرواتها.
لا مبالغة في القول إن الخطر الطائفي والمذهبي، بكل تفاعلاته الداخلية والخارجية، هو ما يتهدّد اليوم سلام اللبنانيين الداخلي. ليس مقبولاً التهاون في إدراك هذه المعضلة، واتخاذ ما ينبغي من التدابير والإجراءات والمواقف التي من شأنها وقف التدهور المروّع الذي يتهدّد لبنان ووحدته ووجوده وإنجازات شعبه واستقراراه وما بقي من عافية وصمود وصبر وشجاعة لدى شعبه.
لا تسامح مع أولئك الذين يظنون أنّ اللبنانيين لا يعيشون بغير الطائفية والمذهبية وكأنهما قدر لا يردّ. من هنا تبرز أهمية بناء مشروع وطني، يأخذ بمبدأ التغيير والتطوير والإصلاح. يصادف أن أساس ذلك موجود في الدستور اللبناني، ويصادف أنّ الدساتير هي القوانين الأساسية التي يجب احترامها بوصفها مرجعية ثابتة لا يجوز خرقها.
في عصر مبكر توصّل هيراكليطوس (Héraclite) وهو حكيم وفيلسوف كبير من حكماء اليونان وفلاسفتها (في امتداد وتجربة فذة من تبلور الكيانات بالتزامن مع تبلور صيغ الحكم والدول)، إلى معادلة ثمينة حين قال: «على الشعب أن يدافع عن القانون كما يدافع عن أسوار المدينة».
إنّ إنقاذ لبنان هو مسؤولية تتوجه الأنظار من أجل الاضطلاع بها، بشكل خاص، إلى «القوى الحيّة» (كما يسمّيها الدكتور عصام نعمان) وهي قوى التغيير والتحرير والتطوير والديموقراطية.
* كاتب سياسي لبناني