يوماً بعد يوم تتعزّز مخاوف الجنوبيين من الأخبار المتداولة عن غياب تمويل الدول الداعمة لمشاريع إزالة الألغام والقنابل العنقودية من أراضيهم. وفيما يحاول البعض التخفيف من حجم هذه المخاوف، تؤكد مصادر متابعة أن «حبل» القضاء على الألغام انقطع «في منتصف البئر» في ظلّ عدم قدرة الجيش اللبناني على تكبّد التكاليف وحده لإزالة نحو 49% من الألغام في الأراضي الملوّثة
آمال خليل
في شهر آب 2006 زرعت إسرائيل مئات الكيلومترات من أراضي الجنوب بالقنابل العنقودية. وفي شهر آب الذي تلاه سقط المنقّبان اللبنانيان عباس جابر وعلي بيطار ضحيتي عملهما على إزالة القنابل والألغام والذخائر غير المنفجرة ضمن فرق التنظيف. وها هو آب الثالث يحمل معه الإنذار بخطر الموت لآلاف الجنوبيين الذين يعيشون ضمن الأراضي التي لم تنظّف بعد من القنابل العنقودية، والتي تضم حقولهم ومصادر أرزاقهم المشلولة. فقد أعلن «مكتب التنسيق لنزع الألغام في جنوب لبنان» عدم قدرته على استكمال عملية التنظيف المقرّرة حتى نهاية العام الجاري بسبب نقص التمويل اللازم لعمل فرق الإزالة، التي تعيل نحو 450 لبنانياً.
فقد أصيب المكتب العامل تحت إشراف الجيش اللبناني بعجز في التمويل الذي تؤمّنه الفرق الدولية الحكومية وغير الحكومية العاملة في عملية الإزالة وصندوق الأمم المتحدة الخاص بهذا الشأن، إضافة إلى الهبات التي قدمت آخرها السعودية بقيمة 500 ألف دولار.
ويأتي هذا العجز في وقت لم تنجز فيه كلّ أعمال الإزالة. فقد حدّد، بعد عدوان تموز، 1056 موقعاً ملوّثاً بالقنابل العنقودية تمتد على مساحة تبلغ 41 مليون متر مربع، ارتفعت إلى 1085 موقعاً. أزيل منها 147 ألف قنبلة عنقودية، ما عدا تلك التي أزالها المواطنون والمزارعون بأنفسهم وتلك التي انفجرت. وأنجز، حتى اليوم، تنظيف نحو 44 % من المساحة الملوثة وسلّمت الى أصحابها، فيما لا يزال الخطر قائماً في 49 % من المساحة الإجمالية فوق الأرض التي جرى تحديدها. ومن المفيد التذكير أن الألغام أودت بحياة 53 شهيداً، منهم 13 من العاملين في فرق نزع الألغام و27 مدنياً و13 طفلاً.
أما وقد تعثّر التمويل، فإنّ الفرق تضطرّ إلى التركيز على الأماكن الملوثة الأكثر أولوية حتى نهاية العام الحالي، في ظلّ رفض إسرائيل تسليم خرائط الألغام والقنابل العنقودية للأمم المتحدة.

ليس حملة إعلامية

وفي ظلّ محاولات نفي العجز من جانب البعض أو اعتباره مجرد حملة إعلامية مبالغ فيها يقوم بها مكتب التنسيق لاستدراج الأموال، تنفي الناطقة الإعلامية للمكتب داليا فرّان الأمر، معلنةً أن السبب الحقيقي هو «تخلف إحدى الدول المموّلة، (رفضت الكشف عن اسمها)، في اللحظة الأخيرة عن الإيفاء بوعودها لدعم الفرق لاستكمال أعمالها حتى شهر كانون الأول المقبل». وقد أبلغتهم تلك الدولة «أنها وزّعت المبلغ الذي رصدته للألغام في جنوب لبنان على دول أخرى مماثلة في العالم».
ولما كان المكتب ينتظر التمويل نهاية شهر تموز الفائت، ولم يحصل عليه، «أُعلنت حالة الطوارئ بسبب الحاجة الماسة إلى سد النقص في المبلغ لاستكمال عملية التنظيف المتفق عليها بحسب اتفاقية التفاهم بين الجيش اللبناني ومكتب التنسيق التابع للأمم المتحدة». وكانت هذه الاتفاقية قد وقّعت في شهر شباط الفائت، وتقضي بأن يسلّم المكتب الأراضي التي نُظّفت وتلك الملوّثة إلى الجيش اللبناني الذي سيستكمل بنفسه عملية تنظيف المساحات الباقية، وخصوصاً أنه لم يطلب رسمياً من الأمم المتحدة تمديد عملها في هذا المجال في الجنوب عاماً إضافياً كما فعل في العام الماضي. علماً بأن فران كانت قد أعلنت «للأخبار» لمناسبة اليوم الوطني للقنابل العنقودية في 4 تشرين الثاني الفائت أن «تمديد عملية التنظيف لعام 2008 أمامه عائق جديد هو تعثّر التمويل».

مصير التمويل المجهول

أما اليوم، فالتساؤلات المطروحة كثيرة بشأن قدرة الجيش اللبناني على تأمين التمويل اللازم المالي والتقني واللوجيستي لتنظيف ما بقي من الأراضي الملوثة، وخصوصاً بعد العجز الذي أصاب ميزانية مكتب التنسيق التابع للأمم المتحدة، والذي كان يستدرج، بمعزل عن الجيش والحكومة اللبنانية، التمويل من الدول المانحة والسفارات في لبنان، والذي رصد مبلغ 10 ملايين و100 ألف دولار لإنجاز عملية التنظيف حتى نهاية العام الجاري.
وفيما انخفض عدد الفرق المساهمة في التنظيف من 60 خلال العام الفائت إلى 44 فريق خلال العام الجاري، فإن العجز الجديد قد يجبر المعنيين على إنهاء عمل 50% من الفرق، التي كانت ستعمل خلال الأشهر الأربعة المقبلة، وخصوصاً تلك التي لا تملك تمويلاً ذاتياً وتعتمد على ميزانية المكتب، ومنها «الباكتيك» أكبر وأقدم شركة خاصة تعمل في نزع ألغام الجنوب منذ عام 2001.
بحسب المعنيين، فإن الرهان الحالي على الدول الصديقة ليس للأربعة أشهر المقبلة فقط، بل للمهمة الملقاة على كتف الجيش اللبناني من بداية العام المقبل. وهي مهمة لا يعفيها البعض من حسابات سياسية تقف وراء حجب التمويل. علماً بأن المكتب الوطني لنزع الألغام في الجيش اللبناني، الذي أنشئ عام 1998، يتلقى تمويلاً خاصاً به بمعزل عن تمويل مكتب التنسيق.

عروض تحت الطلب!

حتى الآن، لا تملك فران معطيات رسمية بقبول الحكومة اللبنانية للعرضين القطري والإيراني للمساهمة في عملية نزع الألغام والقنابل العنقودية، التي ستحال إذا ما جرت الموافقة عليها على الجيش اللبناني مباشرة بعد إنهاء عمل المكتب. لكن المعلومات تشير إلى احتمال استبدال السخاء الإماراتي في هذا المجال، الذي توّج عام 2004 بمشروع التضامن الإماراتي، بالدعمين القطري والإيراني الذي قُدّم بعد شهرين من انتهاء عدوان تموز للمساهمة في عمليات الإزالة في إطار عمل الهيئة الإيرانية لمساعدة الشعب اللبناني، لكن الحكومة اللبنانية رفضته آنذاك بسبب ارتباطها السابق بعقود واتفاقيات كافية مع دول أخرى.