خضر سلامةلو أن الصورة لها رائحة، ولو أن للصورة صوتاً، لحملت معي بحر صور هديةً لمن يبحث عن غرفةٍ من زمرّد: كل بحار العالم تسقط موجاً بين الشاطئ والشاطئ، إلا بحر هذه المدينة الداخلة كسيفٍ من سكينةٍ في ثغر الجنوب، موجه بين العين والعين، والقلب أيضاً، يحمل نفسه على مرايا الماء، ويرمي بالحكايات عند قدميك، فاركع قليلاً أيها الزائر، ولتؤمن بشيء، أيّ شيء، صلِّ لإلهٍ بثيابٍ رثّةٍ يخرج من زندٍ أسمر في قارب صيد، صلِّ لزنبقةٍ هاربةٍ من زحمة ما تركت في العاصمة، صلِّ لصور، لأسطورة فينيقيةٍ كسرت عنق التاريخ وحبسته في زجاجةٍ من حبر، من بحر، ثم ارسم باللون الأزرق سماءً أجمل من تلك المثقلة بالضوء:
«لا تحتاج للضوء كي تتحسس نهدي امرأةٍ جميلة.. صور، أنتِ امرأة جميلة»
كيف يعلّمك البحر درساً وحشياً في الحب؟ الرمل على كتفيك تاجٌ لأميرٍ ضاع في صحراء عيني أنثى، وما سقته من قبلة، والملح يشبه طعم الفراق والمسافة، وصفعات الموج على وجنتيك توقظ ما بقلبك من حنين وتؤذن للشعر، «حيّ على الثمالة بصوتها، حيّ على أجمل حب».. الذكريات كالزبد، تتكسر كل ثانيةٍ وتذوب، ليعاجلك البحر بأخرى تشبهها..
سجّل على ورقةٍ من حزن، أنت لا تستطيع أن تقنع امرأةً من نرجسٍ أنك لا تكتب إلا لها ولو كنت في سريرٍ آخر، ربما وجوه الإناث كالماء، لا يختلف بعضها عن بعض، إلا وجه التي تحبها، صنعه الخالق من معدن البحر، والبحر فريدٌ كفرادة لمستها، والكلمة وفيّة، لا تقبل أن تدخل في جملةٍ مزوّرة، أتراها تصدّق الآن أني أكتب لها، وحدها؟
اتركها كي تنام، وعد أيها القلب ــــ الطفل إلى لعبتك، سأعمّر قصراً من طين مع الأطفال الغاضبين من الموج العاتي.. «وإن دمّر الموج حلمك؟».. عندها سأركض خلف طيارةٍ من ورق تسرقني من السبات الصيفي والشتوي إلى يقظةٍ من فيروزٍ فوق جناح الشمس، وأسمّي نفسي نيروناً مجنوناً.. «وإن هزمتك اللعنات وأحرقت عرشك؟».. لن أحزن، سأقفز فوق حائط القلعة، وأسرق حجراً من آثار صور كما يفعل كل الأطفال في عمري، وسأهرب من غضب الحراس ممتشقاً طيشي، كهنيبعل.. «وإن هزمتك روما وجيوش روما وأنظمة روما؟».. سأسامحهم من فوق صليب الحروب الجميلة، وأدخل في صنارة صيدٍ عند المغيب، وغداً أنفض عن شفتيّ رماد التعب، وأخرج من جديدٍ إلى البحر كطير فينيقٍ، تعرفه صور جيداً.
أنا في صور. البحر من أمامي، والبحر من ورائي. البحر في رئتيّ يستنزف كل أحزاني، وصور جزيرةٌ يحيطها الفرح من كل ناحية، ويحكمها الصمت في حضرة شاطئها، والمجد: كل الغزاة تركوا دماءهم ممزقةً على أشرعة الصيادين، ممزقةً على أصوات باعة الخضر وتعب أبناء الفقر ورحلوا طغاةً مهزومين أمام زئير السهول التي تنتظر أمر حقول الموز اليانعة. كل الحروب والحصارات والمجازر مجرد شائعة في صور. لا شيء أكثر حقيقةً من طفولة جنوبية سمراء تتراقص على إيقاع أغنيةٍ تعني شيئاً لنا.. من يملك ريّ ظمأ السائل بخبث عاشق: البحر بيضحك ليه؟
.. من يملك مفتاح البحر؟