ريمون هنودمن قال إنّ ساحة البرج بشهدائها ورياضها تحرّرت؟ من قال إن أمراء الدوحة وشيوخها تمكّنوا من تحرير ساحة البرج؟ أما إذا كان القصد أنها تحرّرت من فريق الثامن من آذار، فهو تحرير مزيف، رغم التقائي في بعض النقاط مع أفرقاء الثامن من آذار والاختلاف معهم في بعض أخرى، كاعتبار أن المقاومة ضرورة ماسة لصدّ الوحشية الصهيونية وواجب تأمين مسلتزمات ديمومتها، واعتراضي في الوقت نفسه على صبغتها الطائفية وإصراري على تحوّلها إلى علمانيةٍ وطنيةٍ جامعة.
أشهدُ أن ساحة البرج تعاني من احتلال خبيث، احتلال الطبقة النيوليبرالية البورجوازية. احتلال عاث فساداً وموبقات، والنتيجة «طلعت على ضهر الشعب المسكين». لقد أورثتنا تلك الطغمة خمسين ملياراً من الدولارات دَيناً عاماً وعجزاً مالياً هائلاً، أجهز على نسيجنا الاجتماعي وفتك به مخلفاً بطالةً مرعبة وهجرة تهجيرية، وغرق الوطن في حلقةٍ مفرغة، وأضحى على شفير الانهيار، وبات في مصاف المنكوبين، وأسر بين قضبان الحجر الصحي بسبب خوار مناعيته الاقتصادية الوطنية، وأصابته الالتهابات والأورام المذهبية والفئوية والزواربية الضيقة.
ساحة البرج فقدت بريق الماضي، تبكي «مكسور خاطرها»، فقدت أبناءها الأصليين الطيبين، فقدت عيناها منظر الشروال القرويّ البلدي، وأتعستها رؤية مظاهر البهوات والأبّهات. فقدت عيناها رؤية فنجان الشفة والأركيلة بالتنباك العجمي، وأتعستها رؤية حضارة ماكينات الكابوتشينو والأركيلة بالمعسل المزغول، وشاربوها كلهم من أزلام أوناسيس والكونت برنادوت.
أما الفقراء فلم يعد من مكان لهم في ساحة البرج، فدراكولا المال «ما بقّى على خميرتهم طحين»، فجلست مكانهم كلاب وقطط البكوات والأمراء المتلقية للقاح السنوي أو النصف سنوي في أفخم عيادات البيطريّين وفق مواعيد تحدد لهم مسبقاً مصطحبين سيارات الهامر والباثفايندر. والمثل لم يخطئ عندما قال: كلب البيك «بيك» وكلب المير «مير». فالفقراء ممنوع عليهم أن يمرضوا، فما من مستشفى من درجة نجمة إلى خمس نجوم يستطيع استقبالهم لسوء حالتهم المادية، والشيء عينه بالنسبة إلى التعليم، ممنوع عليهم أن يتعلموا، وخاصة أن مدارس اللاهوتيين لا تستقبل إلا «دفيعة» النقدي، وترفض استقبال جماعة التقسيط ولا تعترف برسالة التعليم المجاني.
كما أتذكر قول السيد المسيح: «اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم» ولكن على ما يبدو، منتحلو الصفة باتوا في وادٍ آخر، ولا حياة لمن تنادي.
ساحة البرج، ما زالت مرتعاً لسماسرة الإمبريالية، ما زالت وكراً لجهابذة الاستعلاء والاستكبار والتمييز الطبقي. ما عساني أقول سوى أن بيروت ستّ الدنيا لن تخلو من الأوادم، لن تبقى تحت ردم المقامرين وطامسي الهوية والمعالم. فثورة بيروت لا تولد إلا من رحم الأحزان، ثورة بيروت قادمة للتحرير، وستطيح المخمليين والأغنياء الجدد صنيعة التشبيح الميليشياوي. ستطيح مؤامراتهم وصفقاتهم وتمسح دموع الفقراء الطاهرة، وتفتح الأبواب لأفق التغيير الديموقراطي السليم المسدود تمهيداً لولوجه سفينة الأرز العربي إلى شاطئ الأمان، وإرساء نهج الكفاءة والعدالة الاجتماعية في سبيل بناء لبنان العربي العلماني الديموقراطي.