لم يشفع نجاح الأنثى في التخصص العلمي في دحض نظرة المجتمع التي لا تزال تميّز بينها وبين الذكر. فيؤمن كثيرون بأنّ صفة الذكاء ملازمة للذكور، فيما ينظرون في المقابل إلى الإناث على أنهن أقلّ ذكاءً
هيثم خزعل

لا يتوقف تأثير وجود الذكور إلى جانب الإناث في صفوف الدراسة على ميولهن العلمية فحسب، بل يتعداها ليطال شخصية الأنثى التي تصبح أكثر تقليديّة. فالفتيات هنا يشعرن بالإحباط وعدم المساواة، وتصبح نتائجهن المدرسية أدنى، فيما تضطرب علاقتهن بالأساتذة. في المقابل، يبرز الاختلاط مواهب الأنثى، فتصبح ميّالة أكثر للقيام بنشاطات غير مدرسية كالفنون، كما يعزز ميلها إلى الرياضة وطموحها نحو مراكز أعلى ومهن أكثر تحرراً.
هذا أبرز ما توصلت إليه الدراسة التي أعدتها الطالبة دورين الخوري لنيل شهادة الماجستير من كلية التربية في الجامعة اللبنانية. وقد استنتجت الخوري أنّ العامل الأهم في تعزيز الفرق بين الميول العلمية للإناث والذكور والتأثير على النتائج المدرسية هو نفسي اجتماعي يتمثل بالاختلاط.
وفي إطار إعدادها الدراسة التي أشرف عليها الاختصاصي التربوي الدكتور عدنان الأمين، استندت الخوري إلى أكثر من 70 مرجعاً، وأعدّت جداول إحصائية لفرز النتائج التي أتت شبه مطلقة، ولم تسجّل استثناءات ملحوظة.
وتناولت الدراسة عناوين عدة، منها تقدير الذات في المواد العلمية والأدبية، تقدير المواهب الذاتية، دراسة شخصية التلميذ (الإبداع والجمود)، الطموحات الجامعية، الانضباط، الاختيارات المهنية، العلاقة بالأساتذة، التصرفات، والنتائج المدرسية.
وفي النتائج، تشير الخوري إلى أنّ الاختلاط يؤثر سلباً على ميل الإناث للمواد العلمية. فيتقلص الميل نحو هذه المواد في المدارس المختلطة ويغلب الميل باتجاه المواد الأدبية. أما في المدارس غير المختلطة، فيرتفع تقدير الفتاة لذاتها وتزداد إيماناً بقدراتها العلمية وتتحسن علاقتها بالأساتذة وتخرج عن جمودها وتقليديتها. وهنا تذكر الخوري أنّ الفتيات ينلن معدلات عالية في المواد العلمية والأدبية على حد سواء. وتصبح نتائج الإناث في المواد العلمية أعلى من نتائج الذكور، سواء كان هؤلاء في مدارس مختلطة أو غير مختلطة.
وبالنسبة إلى الذكور، فالاختلاط يزيد، بحسب الدراسة، من ثقة الذكر بذاته، فتصبح نتائجه في المواد العلمية مرتفعة أكثر منها في مدارس اللون الواحد. كما تزيد مواهب الذكور ونشاطاتهم غير المدرسية، ويتعزز طموحهم ويغالون في تقدير أساتذتهم والإعجاب بهم.
وتلفت الخوري في دراستها إلى أنّ التأثير السلبي للاختلاط لا يطال النتائج الدراسية للإناث، فهناك تداعيات نفسية سلبية تنجم عنه، إذ تعمد بعض الفتيات في مدارس اللون الواحد إلى لعب دور الذكر، ويتجلى هذا في غياب أنثوية هذه الفتيات، ونزعتها إلى إبراز التفوق الجسماني على قريناتها. وتعزو الدراسة الأمر إلى غياب الذكور والحاجة إلى خلق توازن مفقود. والأمر سيان بالنسبة إلى الذكور.
وفي معرض تحليلها لنتائج الدراسة، تقول الاختصاصية في علم النفس الدكتورة سهى بيطار إنّ التأثير السلبي لوجود الذكر إلى جانب الأنثى في صفوف المدرسة أو في ميادين العمل يعود إلى بنية مجتمعاتنا التي تتسم بالذكورية المطلقة، وتخوّل الشاب أخذ القرار بثقة، فيما لا تثق بمقدرة الأنثى على القيادة وأخذ القرار. من هنا، فإن وجود الذكر إلى جانب الأنثى يبعث في رأسها، كما تقول بيطار، الصورة المكونة آنفاً عن علاقتها به، وهي صورة تتكون في عقل الفتاة منذ نشأتها، وتعززها تربيتها المنزلية من خلال رؤيتها لعلاقة أبيها بأمها، «وهي صورة عن علاقة الذكر بالأنثى»، حيث يمثل الأب في معظم الأحيان مركز القرار العائلي، أو علاقتها بأخيها الذي عادة ما ينوب عن الأب في غيابه، ويخوَّل فرض القرار في المنزل ورسم حدود الممكن والمحظور.
كذلك فإنّ وجود الذكر إلى جانب الأنثى يحدّ، كما تؤكد بيطار، من انطلاقتها وطموحها، ويكبل إرادتها بقيود تنبع من تراكمات اجتماعية راسخة في وعي الأنثى، مفادها أنّ الذكر أكثر حكمةً أو ذكاءً منها وأكثر أهلية لولوج الميادين الصعبة.
وتقول بيطار: «حتى عندما تحقق الأنثى نجاحات علمية وتصل إلى مراتب عالية، فإن الزواج الذي يكرّس وجود الذكر إلى جانبها يحد من طموحها، ويضعها أمام مسلّمات اجتماعية (أعراف)، فتعود إلى لعب الدور التقليدي لها».
أما في غياب الذكر فتلعب الأنثى دورها من دون قيود، إذ تتحرر من الصورة الراسخة في عقلها عن تفوق الذكر عليها، ما يزيد طموحها، فتبرز مواهبها وتحقق نتائج باهرة في الميادين العلمية والأدبية، كما تزيد ثقتها بنفسها في ظل وجود أقران من الجنس ذاته.
من جهة ثانية، تعزو بيطار تراجع نتائج الذكور إلى غياب الفتيات عنهم، إذ تمثّل الفتاة حافزاً مهماً بالنسبة إليهم، فيسعى الذكر لإثبات نفسه أمام منافسيه كي يحوز رضى الأنثى وإعجابها، فيعدّ وجود الأنثى عاملاً يلهب المنافسة بين الذكور.
وفي حال غياب الأنثى عن الذكر، ينطفئ جموح الأخير ويهمد اندفاعه ويصاب بإحباط، ما يؤثر سلباً على نتائجه الدراسية.
من هنا يظهر أنّ الأنثى في غياب الرجل أكثر انطلاقاً، والذكر في غياب الأنثى أكثر إحباطاً. فهل يكون الحل بأن تنأى الأنثى بنفسها عن الذكر، أم يتنازل الذكور عن نظرتهم الاستعلائية للأنثى فتصبح أكثر قدرة على الانطلاق على رغم وجود الذكر إلى جانبها؟


مجال الدراسة

درست الطالبة دورين الخوري أثر الاختلاط على النتائج المدرسية والأوضاع النفسية لـ708 تلامذة من الذكور والإناث في الصفين الثانوي الأول والثاني بالفرعين العلمي والأدبي. وحرصت الخوري في اختيارها للعينة على مراعاة خصائص المجتمع اللبناني المتمثلة بالتنوع الطائفي والطبقي. وتركزت الدراسة في مدارس اللون الواحد والمدارس المختلطة في بيروت التي تضم تلامذة من بيئات مختلفة ومناطق عدة.