خضر سليم*هل تكمن المعضلة في طبيعة المبادئ العلمانية، وهي بالطبع مبادئ تشترك في حملها قوى وأحزاب وشخصيات قومية وماركسية ويسارية متعددة؟ أم هي في آليات عمل هذه القوى؟ أم في عدم استعداد المجتمع اللبناني وجهوزيته لتلقف المبادئ العلمانية وحمل أعبائها؟
لا يزال انتشار الأفكار والمبادئ العلمانية في لبنان مقبولاً عددياً ومناطقياً، رغم ضمور الأحزاب العلمانية وتراجع دورها لمصلحة تنامي القوى الطائفية. وهذا يشير إلى قوة هذه المبادئ بحد ذاتها، فضلاً عن ضرورتها في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية. وبالرغم من ضعف القوى السياسية العلمانية في لبنان وتراجعها، نجد شرائح واسعة من الشباب اللبناني تقبل على هذه الأحزاب وتخوض غمار التجربة الحزبية في المدرسة العلمانية، حتى يكتشف عناصر الجيل الشاب أنهم التحقوا سياسياً بالمعسكر الطائفي هذا أو ذاك بطريقة غير مباشرة، أي عبر القوى العلمانية الملتحقة بالقوى الطائفية الكبرى، فينتهي بهم الأمر إلى أحد خيارين: إما الهجرة السياسية إلى عالم اللامبالاة، أو الانخراط بالمعسكر الطائفي كعناصر أصلية ليست بحاجة إلى الوسيط العلماني، فيكونون هنا قد استسلموا للأمر الواقع اللبناني الذي لا يسمح بنظرهم بأي تغيير في البنية السياسية وقوانينها الضامنة لاستمرارية النظام السياسي الطائفي في لبنان وتأبيده، بما هو مولّد دائم للنزاعات والأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية في لبنان ومحيطه القومي والإقليمي.
فالمشكلة الرئيسية تكمن في غياب المشروع السياسي الوطني الجامع للقوى والشخصيات الوطنية والعلمانية الجديدة والحقيقية، والقادر على استقطاب غالبية عناصر التيار العلماني الحالم بالتغيير، وصولاً إلى بناء دولة المواطنة في لبنان بديلاً من صيغة المزارع الطائفية التي تتكوّن منها صيغة الكيان اللبناني منذ تأسيسه حتى اليوم. إلى متى ستبقى الأحزاب العلمانية، وخاصة التاريخية منها، مستقيلة من أداء دورها وواجبها في صياغة المشروع السياسي الوطني للحالة العلمانية وتطويره في البلد؟ وإلى متى ستبقى غالبية هذه الأحزاب والشخصيات تتسكع على أبواب أمراء الطوائف لتستجدي دوراً رديفاً وثانوياً يمنح بعضها لذة تناول الطعام إلى مائدة فضلات نظام المحاصصة الطائفية؟ إلى متى ستبقى هذه القوى «العلمانية» عاجزة، وتتسوّل بحجة عجزها، فتات القوى الطائفية؟ إلى متى سيبقى العلمانيون الحقيقيون، وهم كثر، أسرى عجز تلك القوى «العلمانية» وضعفها وفسادها وفشلها، التي تفشت فيها الانتهازية حتى سلبت كل طاقاتها وهجرت كوادرها ودمرت مؤسساتها وخنقت روح الشباب فيها؟
الحل متوافر، وهو يعتمد بالدرجة الأولى على روح المبادرة والتعاون والتكامل بين كل حاملي لواء المبادئ العلمانية، طبعاً بعد تأكيد التزامهم بالمواقف الوطنية الرافضة لأي هيمنة أو وصاية أجنبية، فينطلق المشروع الوطني للحالة العلمانية على قاعدة الثقة بقدرتها على فرض التغيير ديموقراطياً، دون الحاجة لاستجدائه من أي جهة. وهنا يمكن اعتبار إعلان المبادئ الذي صدر عن التجمع العلماني الوطني في شهر آذار الماضي، بمثابة كرة الثلج المؤهلة للنمو إذا ما تكاملنا معها جميعاً، قوى وأفراداً، لنكوّن معاً القوة العلمانية القادرة على لعب دور محوري في الحياة السياسية اللبنانية، دور عابر للطوائف ومتجاوز للصيغة الطائفية في النظام السياسي، دور قادر على انتزاع فتيل الحرب الأهلية المدمرة والقاتلة للجميع، دور مشعّ يجعل من لبنان وطناً حقيقياً للحريات ومنارة للفكر الحر تتجاوز حدود الكيان، ليعم إشعاعها كل المحيط القومي والإقليمي.
* كاتب لبناني