كان يوسف عبدلكي على وشك أن يغادر إلى باريس. اتفقنا على أن نلتقي في Choice Cafe. مكان هادئ عند مدخل مرأب تحت الأرض، اكتشفه عبدلكي خلال وجوده في دمشق التي أخذ يتردد إليها كثيراً في السنوات الأخيرة. بعد 25 عاماً من الإقامة الاضطرارية في باريس، رفض التشكيلي السوري الحصول على جنسية فرنسية. ظل متشبثاً بهويته. «باريس مجرد قاعة انتظار»، هكذا يصفها من دون تردد، ويوضح «لم أكن أرغب في الهجرة.
كنت أنوي إنهاء دراستي والعودة، لكن الظروف عاندتني». كلمة «البلد» أساسيّة في قاموس عبدلكي، وهي جزء من مفهومه للهوية والحراك السياسي والثقافي. السنوات التي قضاها في المعتقل السياسي علّمته معنى الانتماء إلى شرائح وأطياف لم يكن يدركها بوضوح قبل هذه التجربة المريرة والغنية في آن «في السجن تعرّفت إلى سوريا عن كثب، وكانت هذه الفترة على قسوتها من أغنى لحظات حياتي»، لكن حقبة السبعينيات التي شهدت ازدهار العمل اليساري، قادت خطواته إلى التنظيمات الماركسية المحظورة، وتلمّس أدواته الفنية ودوره كفنان في الانخراط في المشاريع الجماعية. ينبغي ألا ننسى نشأته الأولى في القامشلي عند الحدود التركية السورية: كان والده شيوعياً، وستالينياً حتى العظم، وقد سجن 12 مرةً في الأربعينيات والخمسينيات. وكاد في إحداها أن يموت من التعذيب، لولا قوّادة مشهورة في المدينة اسمها «كوليتزار». هذه المرأة التي فتنت رجال القامشلي في الخمسينيات أهداها عبدلكي معرضه الأخير كنوع من دين مؤجل، ألم تنقذ والده من موت مؤكد؟ يروي الحكاية بشغف: «كانت كوليتزار في زيارة إلى مدير فرع الأمن، وخلال عبورها الباب المؤدي إلى المكان، هالها منظر رجل مكوّم تسيل منه الدماء، ينهال عليه رجال بالضرب. أبعدتهم عنه وحضنته فتلوّث ثوبها الأبيض بالدماء، وأمرت مدير الفرع بالإفراج عنه فوراً، ولأنه لا يستطيع أن يرفض لها طلباً، وافق مرغماً على طلبها حالاً».
القامشلي التي رفض عبدلكي العودة إليها مجدداً «كي لا تُدمّر الصورة القديمة في الذاكرة»، هي مكان نشأته الأولى، ورسوماته المبكرة التي أدهشت مدرّسيه في المدرسة الابتدائية. هكذا اقتنع باكراً بأنه سيكون رساماً وحسب.
في كلية الفنون الجميلة في دمشق، تعلّم الحفر والفنون الغرافيكية، وانتقل فجأة من رسم دمشق القديمة ومدينة معلولا إلى رسم الأحصنة. أحصنة غاضبة بأقسى حالات الاحتجاج والغضب والتمرّد. أحصنة تحطّم قيودها وتصهل عالياً في رفض العسف والاستبداد. يقول في وصف تلك المرحلة «كانت لوحاتي في تلك الفترة جزءاً من حراك ثقافي واجتماعي وسياسي شامل في كل حقول الإبداع: سعد الله ونوس وفواز الساجر في المسرح، ونزيه أبو عفش في الشعر، إضافة إلى آخرين، وهكذا وجدت نفسي في قلب هذا الحراك»، ويستدرك «لم يكن خياراً، وفي المقابل ليس لديّ اليوم أي ندم على خياراتي، ربما لديّ نقد صارم لنضوج أدواتي».
لكن هل شاخت أحصنة يوسف عبدلكي اليوم؟ «لم تشخ، لكنها صارت قبيحة وخنزيرية» يجيب بهدوء، ويضيف «عندما يختفي الحامل، تنحسر نبرة الاحتجاج، أو تنطوي على معنى آخر، فالحراك يخضع للصعود والهبوط. هناك لحظة تختارك من دون أن تختارها، وينبغي أن تتعامل معها بنبل وصدق. أما الاحتجاج في لحظة انكسار فهو عناد طفولي لا أكثر ولا أقل».
هكذا استبدل عبدلكي الأحصنة بعناوين ورموز أخرى: أسماك مقطوعة الرأس بحدقات مفتوحة على اتساع، كأنها ترفض موتها. زهور ذابلة وجماجم وطبيعة ميتة، وأشياء بسيطة لطالما كانت مهملة في الجوار، منحها هذا الغرافيكي الصارم، رصانة التكوين وقوة الخطوط في نفَس تعبيري صريح. مهلاً هناك مرحلة سابقة تفصل بين خيول عبدلكي وأشيائه البسيطة: شخصيات ديكتاتورية بأوسمة ووجوه قبيحة تنبئ بصلافة وذئبية في الملامح. تبدو هذه الأعمال، كما لو أنها بيان احتجاجي آخر على مرحلة شهدت حالات قمع وعسف وهتك وخراب، يبررها بقوله «إن المباشرة في الفن ليست عيباً، وهناك علامات في الفن العالمي ظلت راسخة إلى اليوم.. «غيرنيكا» بيكاسو، وجداريات الفن الثوري في المكسيك. اليوم لدي رغبة حقيقية بإنجاز لوحات تنتمي إلى المباشرة من موقع فضح المتناقضات ورصد حركة البلد وتحولاته ببشره وشوارعه، كأن أدمج البذاءة الإيروتيكية مع رصانة الأيقونات، في بنية غرافيكية عميقة بالأبيض والأسود من دون زيادة أو نقصان، فالمهم في نهاية المطاف: ماذا تصنع بالأدوات؟».
المرسم الضيق في باريس، منعه من تحقيق أفكار كثيرة، ينوي إنجازها اليوم، في «البلد» على وجه التحديد. يقول «الخزّان العاطفي بقي موجوداً على الضفة الثانية، وهو حبل السرة الذي لم ينقطع يوماً، طوال غربتي في باريس»، قبل أن يستدرك «المكان الضيّق ليس عقبة. ينبغي الحذر من ذلك، ويحضرني في هذا السياق نموذج جياكوميتي، أحد كبار النحاتين في العالم، فقد كان يعيش وينحت في 20 متراً مربعاً. ما يعيق الحركة هو حضور الفضاء الأصلي للفنان أو غيابه». ربما لهذه الأسباب، لم يتردد عبدلكي في المشاركة في «ملتقى الرسم العالمي الأول» الذي أقامته أخيراً ورشة البستان في دمشق باعتباره نشاطاً أهلياً ومستقلاً، وينسجم مع تطلعاته الشخصية في الانخراط بأي حراك ثقافي جماعي، على رغم عدم تفاؤله بنهوض ثقافي وسياسي جديد «فالمجتمع المدني أُجهض بغياب التعددية وحرية التعبير، وإخصاء الحياة السياسية، ولعل في نموذج العراق درساً بليغاً لكل الأنظمة العربية المشابهة، فلو كان المجتمع العراقي محصناً بحرية الرأي والديموقراطية، لما تمكنت أميركا من احتلال العراق».


5 تواريخ

1951
الولادة في القامشلي

1970
كلية الفنون الجميلة في دمشق
(قسم الحفر)

1973
أول معرض شخصي في دمشق

1978
اعتُقل لانتسابه إلى رابطة العمل الشيوعي في سوريا

1980
غادر إلى باريس للدراسة، ومنع من العودة إلى سوريا حتى عام 2005