أمل سعد *إنّ ما يفاقم الورطة الإسرائيلية، هو أنه باعترافها بحزب الله كشريك في التفاوض بدلاً من الحكومة اللبنانية، قوّضت بشكل غير مباشر هذه الأخيرة، بحسب ما اشتكى أمين الجميل أخيراً. وطالما كان الردّ على مثل هذه الاحتجاجات بالقول إنّ ما من حكومة لبنانية سعت لتحرير أسرى لبنانيين بطرق دبلوماسية.وفي الواقع، فإنّ حكومة السنيورة التي لم يسبق أن استخدمت الرافعة الدبلوماسية التي تتمتّع بها مع الولايات المتحدة وأوروبا لحل قضية الأسرى. ونتيجة لذلك، تحوّل حزب الله إلى الدولة الفعلية التي باستطاعتها الوفاء بوعودها، وهو ما يتعارض مع مواقف الحكومات المتتالية غير الكفوءة التي لم تتكبد عناء المحاولة أصلاً، وساهمت بالتالي في المحافظة على ديناميكية «اللاعبين من غير الدول» non-state actor الذين يلعبون دور «الدول الفعلية» de facto state مقابل «الدول غير الفاعلة» the state non-actor التي لا تتمتع سوى بوضع الدول «بحكم القانون» de jure state.
هذا التمييز يجيب جزئياً عن السؤال الذي طرحه وليد جنبلاط، أحد القادة الكبار في 14 آذار «كيف يكون لدى بعضنا الحق في إجراء مفاوضات لاستعادة الأسرى» مع إسرائيل، فيما تتهم الحكومة بـ«التعاون مع العدو» إذا ما دخلت في مفاوضات مماثلة؟
غير أنّ الدولة «بحكم القانون» غير المتسلّحة لا باستراتيجية ولا بسياسة دفاعية في وجه أعدائها، والتي تفتقد إلى السلطة المعنوية على جزء مهم من مواطنيها، لا تملك النفوذ اللازم للتفاوض على صفقات من هذا النوع، أقلها مع عدو متفوق عسكرياً وملعون شعبياً كإسرائيل. فلو تفاوضت الحكومة اللبنانية، بقدراتها الحالية، بشكل مباشر أو غير مباشر مع إسرائيل، فإنّ ذلك سيكون بضغط من الولايات المتحدة وإسرائيل عليها لفعل ذلك، فيما تخوض المجموعات مثل حزب الله و«حماس» في مثل هذه المفاوضات لأنها أجبرت إسرائيل على الانصياع لها.
ثمة نتيجة أخرى ذات صلة لصفقات التبادل مع حزب الله وحماس، وهي أنّ الحقيقة البديهية التي تقول إنّ إسرائيل «تفهم فقط منطق القوة» قد ثبتت مرة أخرى، بإقرار أحد العناصر البارزين في السلطة الوطنية الفلسطينية. فقد ألقى هذا المسؤول أخيراً باللائمة على إسرائيل لأنها تظهر كل مرة أن القوة هي اللغة الوحيدة التي تفهمها، وأن حزب الله يقاتلها ويختطف جنودها ويحصل على كل طلباته. مضيفاً أن نصر الله يركّع إسرائيل كل مرة ويكون ردها بتركيع أبو مازن. وحزب الله يقيم هذه الحجة دائماً عندما ينسب تحرير الأراضي اللبنانية والفلسطينية للنشاط المقاوم، في حين ينتقد بشدة جدوى الدبلوماسية مع إسرائيل في استعادة الأسرى أو الأراضي المحتلة. وكما قال السيد نصر الله، فحتى لو انسحبت إسرائيل من مزارع شبعا بالضغط الدبلوماسي، كما تقترح الولايات المتحدة حالياً، فإن «هذا سوف يتحقق بفضل الأسلحة المستعدة دائماً لتستخدم» والمتوافرة في يد المقاومة. ولكن بالخضوع فقط لمنطق القوة، تضع إسرائيل نفسها من جديد أمام جولة جديدة من العنف مع أعدائها، عبر استعادة الحديث عن سابقة أسر جنودها كوسيلة لاستبدال الأسرى، والنضال المسلَّح كسبيل وحيد لتحرير الأراضي المحتلة. وبعكس الكثير من التوقعات بأن نزع سلاح حزب الله بات قريباً لأنه سوف يجرّد من ذريعة الاحتفاظ بالسلاح عند إقفال «ملف التحرير» (أي لدى إطلاق الأسرى وإخلاء مزارع شبعا)، فإن صفقة التبادل لم تؤدِّ سوى إلى تثبيت حجج حزب الله بالمحافظة على وضعه المسلح.
وفي خطابه في تموز، ذكر نصر الله أبرز القضايا وهي: اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، والانتهاكات الإسرائيلية للأجواء اللبنانية، ومطامع إسرائيل بالمياه اللبنانية، فضلاً عن التهديد العام الذي ما زالت تمثّله إسرائيل للبنان، وهو ما يجعل مسألة وضع «استراتيجية دفاع وطني» فعالة، أمراً ملحاً. وحزب الله يرى نفسه مستمراً في لعب دور أساسي في أية استراتيجية مقبلة، كما عبر عن ذلك وزير الطاقة السابق محمد فنيش، في إشارة إلى نجاح الحزب في تحقيق الصفقة عندما قال إنّه عند تقييم المخاطر المقبلة، علينا التوافق على ضرورة أن تتمتع المقاومة بالجاهزية، وأن يكون لدى مقاتليها وقادتها الخبرة الكافية.
ويعكس اقتراح نصر الله، المتعلق باستفتاء أهل الجنوب، حماسة حزب الله المتجدّدة للاحتفاظ بسلاحه، فقد أوكل البحث بالاستراتيجية الدفاعية ومقاومة حزب الله إلى سكان جنوب لبنان، الذين تحملوا وطأة الهجمات الإسرائيلية المتعاقبة. وإذا كان من شأن مثل هذا الخطاب تعميق الانقسامات السياسية في لبنان في الوقت الحاضر، فإن صفقة التبادل ستكون بمثابة عامل موحّد.
وحتى الآن، تعهدت قيادات 14 آذار بحضور حفل استقبال الأسرى، إلى جانب تعهد السنيورة بجعل ذلك اليوم عطلة وطنية. وعلاوة على ذلك، فإن نجاح نصر اللّه في تقديم الصفقة على أنها تجعل من لبنان أول دولة عربية طرف في النزاع العربي ــــ الإسرائيلي، تنهي قضية الأسرى، وأشلاء المقاتلين والمفقودين في أرض المعركة، ستتردّد أصداؤه على نطاق أوسع في العالم العربي، ممّا يسمح لحزب الله بتصحيح الضرر التي لحق به بعد مشاركته في المواجهات المذهبية في أيار الماضي. وحقيقة أنّ القنطار ليس عضواً في حزب الله، بل ينتمي إلى الطائفة الدرزية التي هي عموماً مع 14 آذار، سوف يساعد على ذلك أيضاً.
قد يكون أحد أهمّ الإنجازات التي حققها حزب الله كنتيجة لصفقة التبادل المقبلة، هو نجاحه في تجريد إسرائيل من عباءة «القيمة والكرامة الإنسانية» التي لطالما تدثّرت بها لدى تفاوضها على صفقات تبادل غير متوازنة مع مجموعات مقاومة عربية وجعلتها خاصة بها.
وقد ألمح السيد نصر الله إلى ذلك في 2 تموز عندما اتهم الحكومة البريطانية بمحاولة نزع الصفة الحضارية والإنسانية عن الحزب، بسبب احترامه وتقديره لقيمة النساء والرجال وكراماتهم، وذلك عبر وصف حزب الله بالمنظمة «الإرهابية». وفقاً لنصرالله، اكتسب الحزب هذه الصورة بعدما رفض بحزم بقاء أي من أبناء وطنه في السجن، وسعى إلى استرجاع جثث مقاتليه وكشف مصير المفقودين. وكما أعلن فنيش من قبل «لقد أعدنا الاحترام للقيمة الإنسانية، هذا الاحترام الذي انتزعه النظام العربي».
إنّ تخليد الحزب لشهدائه، والحملات الطويلة التي أطلقها لاسترجاع أسراه، فضلاً عن عملياته العسكرية ومبادراته الدبلوماسية التي قام بها لمعرفة أماكنهم، لم تؤدِّ إلى النتائج المرجوة فحسب، بل أكدت مدى أهمية مقاتليه الأحياء والأموات بالنسبة إليه.
يُشار إلى أنّ كلام نصر الله بأن إسرائيل لم تطرح موضوع أشلاء جنودها العشرة الذين قتلوا في حرب تموز إلى أن عرض الحزب تسليمهم، يزيد من قوة موقفه. لذلك، ففي حين يُعدّ استعداد إسرائيل الدخول في عمليات غير متوازنة لتبادل الأسرى نابعاً من «عقب أخيل» ديني ــــ أخلاقي، مما يمنحها تفوقاً ثقافياً وأخلاقياً على العرب الذين أظهروا معدلات تبادل منخفضة في صفقات مماثلة، فإن هذا الاستعداد لتنفيذ عملية التبادل يُعدّ حالياً نقطة ضعف استراتيجية.
لعلّ السبب الرئيسي وراء قرار إسرائيل توقيع اتفاق لتبادل الأسرى، ولديه ارتدادات مجحفة على الدولة اليهودية، هو أنّها راغبة في تفادي مواجهة جديدة مع حزب الله، والحؤول دون خطف المزيد من جنودها. فالواقع هو أنّ هزيمة إسرائيل على يدي حزب الله خلال حرب تموز، واعترافها بأن قوة الحزب ازدادت أكثر من الماضي، قد أضعف قدرتها الرادعة، وحوّلها إلى قوة دفاعية من غير المرجح أن تشن هجوماً عسكرياً في الوقت الراهن، وخاصة ضد إيران.
بكلمة، إن الخلل الرئيسي يكمن في التخطيط الاستراتيجي: فلو وافقت إسرائيل على توقيع صفقة تبادل مع حزب الله في تموز 2006، لما كان لديها الذريعة لشنّ حرب بات واضحاً أنها لم تكن مستعدة لخوضها آنذاك.
(ترجمة: لمياء الساحلي)
* باحثة لبنانيّة