اعتاد طلاب الجامعات اللبنانيّة وجوه أفراد من فرع المعلومات أو الاستخبارات. إلا أنّ الأمر يتّخذ أبعاداً أخرى في الجامعة اللبنانية، حيث يتسجّل بعض هؤلاء كتلامذة، نظراً لتدنّي رسوم التسجيل
ديما شريف ـ قاسم س. قاسم

«يقنعوننا بأنّهم طلاب جامعيّون، لكنّهم يفضحون أنفسهم بشكل أو بآخر»، عبارة يكرّرها طلاب الجامعة اللبنانية في أي فرع كانوا، لدى الحديث عن أفراد الاستخبارات الذين «يخدمون» في كلياتهم. يحاول البعض التصرّف كالطلاب، في محاولة للاندماج معهم، فيتسجّلون في هذا الاختصاص أو ذاك، فيما يتجوّل البعض الآخر في حرم الجامعة من دون عناء التخفي. لكنّ مهمة هذه العناصر تبقى جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن التوجهات السياسية للطلاب.
لم تختلف التقنيات والوسائل في فترتي الوجود السوري وبعده، فالولاء السياسي لهذه العناصر تجاه من يحكم البلد هو وحده الذي اختلف. يخبرك الطلاب الفاعلون سياسياً أنّهم يتعرّضون لمواقف وحوادث سيئة، كان سبب بعضها زملاء لهم في الصف.
يُطلق الطلاب على هذه العناصر بعض الألقاب للحديث عنهم من دون إثارة انتباههم. ففي أحد الفروع الأولى، يستخدمون لقب «البخاخ». يتذكر علي كيف تعرّف إلى أحدهم، عندما دخل إلى أحد المقاهي المجاورة للجامعة في الثانية صباحاً. شكّ علي وأصدقاؤه بالرجل فوراً «أي مجنون يأتي ليشرب عصيراً في مثل هذا الوقت؟». ازداد شكّ الشبان إثر سماعهم صوت جهاز اللاسلكي الذي كان يخبئه داخل سترته.
لم يعد علي منذ ذلك الوقت يفارق المقهى أو حتى الجامعة. وبحكم وجوده اليومي، نشأت بينهم، كما يقول، صداقة حذرة، إذ أصبح الرجل بعد فترة يشكو لهم دوام خدمته السيّئ وراتبه القليل.
أما هبة فكانت صدمتها كبيرة حين اكتشفت أنّ الشاب الذي ارتبطت بعلاقة عاطفية معه كان يستغلّها للتجسس على زملائها. كانت تعرف أنّه يعمل في أحد فروع قوى الأمن، لكنّها لم تشك لحظة بأنّه سيستغل وجودها في الجامعة ليرتادها بحجة انتظارها. أصبح الرجل على علاقة وطيدة برفاق هبة، وبدأ يتردد إلى الجامعة، حيث أثارت أسئلته غير البريئة الأصدقاء، فقد كان يسأل عن التحركات والنشاطات السياسية، والشباب الناشطين في التظاهرات التي كان يشارك فيها بحماسة. ويقول عبد، أحد أصدقاء هبة، إنّهم اكتشفوا السبب عندما سألوا صديقتهم عن عمله، فهدّدوه بأن يكسروا قدميه إذا عاد إلى الجامعة. وكانت النتيجة أن قطعت هبة علاقتها به.
من جهته، كسر نضال حاجز الرعب من رجال الاستخبارات، فهو حزبيّ ولا يخاف منهم. وقد جلس مع أحد الذين كانوا «يخدمون» في كليته، وسأله عن الاستفادة من عملهم داخل الجامعات وما إذا كانوا يعتقدون فعلاً أن الطلاب يصنعون العبوات داخل الصفوف، وكيف يقضي وقته في الجامعة والتفجيرات متنقلة بين المناطق. كان الجواب بأنّه موظف وفُرِز في هذه النقطة وعليه تقديم تقارير يومية.أما جهاد فتنبّه إلى أن سائق سيارة الأجرة التي استقلها في أحد الأيام كان «بخاخاً» في جامعته، أخبره بأنّه كان يراه في محيط الجامعة، ومعروف عنه أنّه في فرع المعلومات. فابتسم السائق وقال له إنه في دوام عمله أيضاً لكنّ دوره اليوم أن يكون سائقاً.
وفي أحد الفروع الثالثة في طرابلس، اعتاد الطلاب على «أبو فادي». فهو الوجه الوحيد الذي لم يتغير في الجامعة. ما يميز «أبو فادي» عن غيره من «مندوبي» القوى الأمنية في الجامعة، أنّه يعمل علناً، فلم يتسجل في الكلية ليحاول التغطية على عمله. يرافق «أبو فادي» الطلاب في كل تظاهراتهم، وأصبح مَعْلَماً جامعياً يطّلعون عليه منذ يومهم الأول عندما ينصحهم أصدقاؤهم بشأن أسس التصرف في الجامعة.
يتجول «أبو فادي» مستطلعاً الطلاب الذين باتوا يعرفونه، أو يبقى واقفاً في الظل قرب أحد الأعمدة ونظراته تخترق الجموع وعيناه على المشاغبين، وهم الطلاب المنتمون إلى القوى السياسية المعارضة. تتغير هذه المعارضة وفق الرياح السياسية، قبل 2005، كان المشاغبون هم المعارضين لوجود الجيش السوري، أي العونيين، القوات، الشيوعيين، والبعثيين العراقيين. مثّل هؤلاء مكسر عصا قوى الاستخبارات اللبنانية والسورية الفاعلة في الجامعة، وخصوصاً في السنة الدراسية التي تلت أحداث 7 آب 2001. فقد كان الطلاب ـــ الأمنيون يبلغون عن زملائهم الذين شاركوا في ذاك النهار وتفادوا الاعتقال، وأيضاً عن كل من كانوا يعرفون أنّه يحمل في محفظته روزنامة عليها صورة من 7 آب وزرعتها قوى المعارضة آنذاك.إلى جانب «أبو فادي»، كانت صفوف إحدى الكليات تعج بـ«المندوبين» الأمنيين الذين ارتبطوا بطريقة أو بأخرى بعلاقة مع الاستخبارات السورية. كان أشهرهم محمود الذي أعاد السنة الثانية مرات عدة ونجح «بدفشة» من المدير. كان محمود يجاهر بانتمائه إلى حزب البعث وعلاقته الأكثر من جيدة مع الأساتذة المنتسبين إلى الحزب في الجامعة، إضافة إلى عدد من الضباط في الاستخبارات السورية واللبنانية. وكان محمود يستقي الأخبار ويبلّغ عنها، حتى إنّه أصبح مصدراً لها، إذ كان يقصده البعض للتأكد من خبر معين. أما مازن، الذي بقي 8 سنوات في الكلية نفسها، فاستغل معرفته بأهل إحدى زميلاته «المشاغبات» واتصل بهم ليطلب منهم «يضبوا» ابنتهم التي تعمل ضد السوريين في الجامعة.
تختلف أوجه عمل هذه العناصر، والشخصيات التي تتقمصها، من طالب فاشل، سائق أجرة أو صديق، ولكن تبحث في الجامعة عن مشروع مناضل سيزعج الحكم مستقبلاً، ليرعبوه قبل أن يتسنى له التجرؤ على الاعتراض والمشاغبة.


أبو فادي يقلق «المشاغبين»

كان أبو فادي يأتي إلى الجامعة اللبنانية قبل بدء الدوام ويذهب بعد أن يتأكد من أن جميع المشاغبين انصرفوا إلى بيوتهم، أو أنّ زملاءه في العمل يتولّون مراقبتهم خارج الحرم الجامعي. اعتاد الطلاب وجود أبي فادي لدرجة أنهم قلقوا عليه عند غيابه يومين متتاليين. اكتشف الطلاب أنّ ابنته توفيت، فزاره بعضهم لتقديم واجب العزاء. بعد مرور أيام عاد أبو فادي إلى مزاولة عمله الاعتيادي في الكلية.