strong>لطفي حجي *من حقّ النشطاء الحقوقيّين ومناهضي العولمة أن يعبّروا عن تخوّفهم من مشروع الاتحاد من أجل المتوسّط الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي. فالمشروع يحتوي على ثغرات عدّة تمسّ جوهر الشراكة الأورو ــــ متوسطية التي انطلقت مع مسار برشلونة منذ أكثر من عشر سنوات. وبعيداً عمّا أُثير من احترازات من بعض الدول العربية المعنية بهذا المشروع الجديد ومن الأوروبيّين حول قضايا مثل الطاقة والبيئة، فإنّ القضيّة الأهم التي تخلّى عنها الرئيس الفرنسي في مشروعه الجديد هي قضية حقوق الإنسان عامة بمختلف عناصرها.
يسعى ساركوزي منذ انتخابه إلى البروز كزعيم صاحب مبادرات تخص فرنسا والاتحاد الأوروبي والمنطقة المتوسطية عامة. فكان مشروعه عن الهجرة الذي يعدّ روح القانون الجديد الذي أقرّه البرلمان الأوروبي الشهر الماضي، وكان أيضاً مشروع الاتحاد من أجل المتوسط الذي أزعج في بداية الإعلان عنه مجموعة من الدول الأوروبية في مقدّمها ألمانيا.
غير أن المتأمّل في المشروع الجديد يجده قد تخلّى عن مبادئ أساسية في مسار برشلونة، لعل أهمها البند الذي ينص على احترام شركاء الاتحاد من جنوب المتوسط لحقوق الإنسان.
وتقوم فلسفة هذا المسار على أنّ تأهيل دول جنوب المتوسط لا يجب أن يكون اقتصادياً وتجارياً فحسب، بل يجب أن يصاحب ذلك تنمية سياسية قوامها تغيير التشريعات بما يجعلها تضمن حقوق الإنسان.
وإذا كان مسار برشلونة لم يحقق الكثير من أغراضه المعلنة في هذا المجال، فإنّ ما ذهب إليه ساركوزي يعدّ تخلّياً كلياً عن النيّات الطيّبة للأوروبيّين في احترام حقوق الإنسان.
ولم يقف ساركوزي عند حدّ التغاضي عن تجاوزات شركائه في مجال حقوق الإنسان، بل أمعن في تمجيد بعضهم، مثل تصريحه خلال زيارته الأخيرة إلى تونس بأن مجال الحريات يتطور في تونس، مما أثار حفيظة الكثيرين، لأنّ تصريحه تزامن مع شنّ السلطات التونسية حملات اعتقال في الجنوب ضدّ المتظاهرين المطالبين بتحسين الأوضاع الاجتماعية. كما أنّ النظام التونسي لم يتخلَّ عن سياسته في ممارسة أقصى درجات الضغط على هيئات المجتمع المدني.
والأمر نفسه ينطبق على سوريا وليبيا اللتين يلاقي سجلّهما في انتهاك حقوق الإنسان نقداً واسعاً من جانب المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
لقد بدا واضحاً للجميع أن ساركوزي لم يمانع في إجراء مقايضة مع قادة دول جنوب المتوسّط مقابل قبولهم بمشروعه الجديد. وقوام هذه المقايضة أن يندمجوا في المشروع مقابل تغاضي فرنسا وحلفائها الأوروبيين عن مطالب الإصلاح السياسي في تلك الدول، وقد كانت مطالب أساسية في بداية انطلاق مسار برشلونة. وكان من الطبيعي أن تثير مواقف ساركوزي الامتعاض في أوساط العديد من الحقوقيين والخبراء الفرنسيين الذين رأوا أن أكبر متضرر من مواقفه سيكون المجتمع المدني في بلدان جنوب المتوسط، وأن سياسته ستطلق العنان أمام الأنظمة الشريكة له للإمعان في انتهاك الحقوق الأساسية لشعوبها.
لم يعد الإصلاح السياسي من الأولويات في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، بل أصبحت مثابرة الدول العربية في مقاومة الإرهاب والهجرة السرية هي الأساس. وهو ما يقودنا إلى قانون الهجرة الجديد في الاتحاد الأوروبي، وهو الذي سينتهك حقوق الإنسان في داخل أوروبا ويهدد المهاجرين واللاجئين، إلى درجة أن مجموعة من المنظمات الناشطة في الدفاع عن المهاجرين في فرنسا لم تتردد في وصفه بـ«قانون العار».
مع قانون الهجرة الجديد الذي تبنّاه الاتحاد الأوروبي والذي سيكون دليل الاتحاد من أجل المتوسط، بات يُخشى من أن تدفع فرنسا باتجاه انتهاك الكثير من حقوق المهاجرين واللاجئين! فالقانون الجديد يحد من حرية التنقل ويسمح باعتقال المهاجرين غير الشرعيين لمدة قد تصل إلى سنة ونصف، علاوة على أن ظروف الاعتقال لا تتوافر على الضمانات اللازمة لحقوق الإنسان.
وعلاوة على المهاجرين، فإن اللاجئين باتوا بدورهم مهددين. فبعد أن كانوا يجدون في الغرب ملاذاً من جحيم القمع في بلادهم، أصبح التضييق عليهم في الميثاق الجديد هو القاعدة، مما دفع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى تحذير الاتحاد الأوروبي من أن تكون سياسته الجديدة المتشددة بخصوص الهجرة تتغاضى عن حقوق اللاجئين.
لقد أعاد مشروع ساركوزي عن الاتحاد من أجل المتوسط إلى السطح نقاشاً حول طبيعة أوروبا الجديدة وخصائصها، وأبرز تيّارين: الأوّل تقدّمي تتبنّاه منظّمات وأحزاب مدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان، رأت في انحراف أوروبا اتجاه القوانين الزجرية والمشاريع الأحادية مخالفة واضحة لقيم أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية والمتمثلة بالخصوص في الإنسانية والسلم والتضامن والكرامة وغيرها من القيم الأخرى.
أما التيار الثاني فهو يميني لا تخلو أطروحاته من حنين إلى ماضي أوروبا الاستعماري، لذلك يدفع في اتجاه سن قوانين لا تراعي حقوق الشعوب التي تعد شريكة في التنمية وفي الفضاء الجغرافي.
أبرزت تقويمات مسار برشلونة أنّ دول جنوب المتوسط الشريكة مع الاتحاد الأوربي في اتفاقيات رسمية، بقدر ما نجحت ــــ ولو نسبياً ــــ في تأهيل مؤسساتها التجارية والاقتصادية (بغض النظر عن مسألة التنمية)، وبقدر ما فتحت أسواقها للبضائع ورؤوس الأموال الأوروبية، أخفقت إخفاقا تاماً في الالتزام ببند حقوق الإنسان. وكان على الاتحاد الجديد أن يدفع في اتجاه معاكس تماماً لما يباشره، اتجاه يجعل شعوب المنطقة شركاء في التنمية وفي الحقوق أيضاً، لكن ذلك المطلب يبدو بعيد المنال مع «المدرسة الساركوزية».
* صحافي وكاتب تونسي