strong>ليس من السهل أن «تظفر» بثلاث ساعات مع مدير مكتب «الجزيرة» في بيروت. ومع ذلك، فتح لنا الإعلامي المعروف أبواب خلوته، أعدّ لنا الشاي على طريقته، واستعدنا، في «جلسة هادئة»، محطات من حياته الخاصة ومساره المهني، بين تونس وبيروت وباريس وطهران
صباح أيوب

«لم أخطط لأكون صحافياً»، قد يصعب تصديق هذا الأمر في البداية، وخصوصاً إذا كان صادراً عن أحد أبرز الوجوه الإعلامية في العالم العربي. لكن عندما تكتشف أنّ بدايات غسان بن جدو كانت في دراسة الاقتصاد، وأول نشاطاته المهنيّة كان في التجارة، يتأكد لك أنه حاول في شبابه أن يعاكس قدره. لكن الحظ المطلق و«العناية الإلهية»، كما يحب هو أن يسمّيها، حوّلا مساره المهني. أما حياته، فرسمتها السياسة والجغرافيا والدين والموت.
الطفل المدلّل الذي ولد في 8 آب/ أغسطس 1962، في بلدة «القصور» في الشمال التونسي، من أب تونسي وأمّ لبنانية، لم يعش طفولته كسائر الأولاد. فهو صاحب الاسم الغريب الذي كان محطّ استفهام وانتباه: في تونس حيث لم يكن اسم «غسان» شائعاً. وفي لبنان كانت كنية «بن جدّو» غير مألوفة. وهو ابن الرجل السياسي المقرّب من الحبيب بورقيبة، ما صعّب عليه اكتساب أصدقاء حقيقيين، ووضعه في حالة ترحال دائمة. وهو الابن الذكر والبكر، الوحيد بين شقيقتين، في عائلة أرستقراطية أمّنت له الرفاهية المطلقة، لكنها سلبته عفوية الطفولة. طفلاً سكن غسان وحده في جناح خاص به داخل المنزل العائلي الكبير، ولم يكن يحتكّ بأفراد عائلته «إلا على طاولة الغداء». ولكم أن تتصّوروا، بعد ذلك، كيف انتقل للعيش في كنف عائلة مسيحية كتائبية، حين قدم إلى بيروت في الحادية عشرة... وكيف راح يرتاد الكنيسة بانتظام، هو ابن الرجل «الزيتونيّ» (نسبة إلى جامع الزيتونة العريق في تونس) والعلماني المنفتح في آن.
«عندما عدت إلى تونس، بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، كنت أسترقّ النظر إلى الشباب الذين يؤمّون المسجد للصلاة، فأنا، لم أكن أعرف كيف أصلّي صلاة المسلمين». وفكّر غسان قبل أن يردف: «لم أتفق مع الفكر الذي كان مقترناً بالدين وقتذاك، فقررت إقامة علاقة خاصة بيني وبين ربّي، من دون أن أتخلّى عن ديني كمسلم. ووجدت الراحة النفسية التي كنت أبحث عنها».
منذ مراهقته الأولى كان مسكوناً بنهم كبير للقراءة. التهم ما كان يقع بين يديه من روايات ودواوين شعريّة و... كتب سياسيّة أيضاً، باللغتين الفرنسية والعربية. فقد نشأ في جوّ سياسي بامتياز، وكان يناقش والده في الشعر والأدب، ويجادله في القضايا السياسية ولمّا يبلغ العاشرة. لكن هذا النضج المبكر والاجتهاد المتميز في المدرسة، وفي النوادي الأدبية والفكرية التونسية، من الأمور التي تدمع لها عينا غسّان اليوم. يعترف بأن نمط حياته ذاك، حال دون إقامة علاقة طبيعية، عاطفية وحميمة، مع والده الذي فارق الحياة باكراً وهو في الثامنة عشرة: «لطالما كانت علاقتي به ندّية. فكنت في سباق مستمر مع القراءة والمعرفة لأجاريه وأناقشه... كبرت قبل أواني للأسف، ولم يمهلني الزمن كي أصحح علاقتي مع والدي...».
رحيل الأب سيكون مفترق طرق في حياة غسان بن جدّو. فبعد أن كان غسان على أهبة الاستعداد للسفر إلى سويسرا لدراسة الطب، تحوّل إلى دراسة الاقتصاد في فرنسا. وهناك، اختبر الحياة الطالبية النموذجية، فواكب الأحداث السياسية وشارك في التظاهرات الطالبية، وكان حاضراً في أغلب النقاشات الحامية. وقد لفت بن جدو انتباه الجميع، إذ كان مستقلاً في آرائه، يسارياً في مبادئه، مدافعاً بشراسة عن كل قضية حقّة: «كنت مع الشيوعيين والقوميين والمتديّنين في الدفاع عن قضايا كنت أراها عادلة». لم تفلح أية جهة حزبية في احتكار الطالب الذي عاد إلى تونس ليتولّى إعالة أسرته. اشتغل بداية في التجارة، ثم بدأ يراسل دوريات محليّة. وكان لصحيفة «الرأي» التونسية دور في انطلاقته المهنية، من خلال أول عمل ميداني في حياته، نفذه أثناء زيارته لبنان عام 1984. عاد يومها بأربعة تحقيقات، وبمقابلات مع نبيه بري، سعيد شعبان، السيّد محمد حسين فضل الله، وكريم بقرادوني. هكذا خطّ الصحافي المبتدئ أولى خطواته في مهنة المتاعب، ترافقه «عناية إلهية»... وحظ المبتدئين الذي لم يفارقه منذ ذلك الحين.
إلى جانب الحظ، أتقن بن جدو فنّ اقتناص الفرص، ولفت الانتباه بذكاء. هكذا وجد له مكاناً في صحيفة «الحياة»، وإذاعة الـ BBC، و... قناة «الجزيرة». صار المراسل المعتمد لوسائل الإعلام المختلفة من مكتوبة ومسموعة ومرئيّة، في الأمكنة الساخنة، وفي لحظات تاريخية حساسة. راسل «الحياة» من الجزائر (1990 ــــ 1991)، ثم راسل الـ«بي بي سي» و«الحياة» من طهران (1992 ــــ 1996)... إلى أن تفرّغ لقناة «الجزيرة» وصار مدير مكتبها في طهران عام 2004.
بعد تلك التجربة المتعددة الآفاق، سيسرقه العمل التلفزيوني في النهاية. اختار «الجزيرة» ولكن... بعد تردّد. بادلت القناة القطرية مراسلها المشاغب بالثقة المطلقة، والدعم التام، فكان له غالباً ما يريد... وكان أن فرضت هذه الفضائية حضورها عربياً وعالمياً، فإذا بغسان، من حيث لا يدري، نجم في سماء الإعلام العربي. تلك النجومية يخجل من الاعتراف بها. ومع أنّه لم يتغيّر أبداً، بقربه من الناس وتواضعه، فقد بات ملزماً بالاهتمام بصورته ومظهره: «لقد أثرت الشهرة على حياتي الشخصية، وقيّدت حريتي». يتذكّر بن جدّو فجأة أنّه لم يأخذ عطلة حقيقية منذ تسلّم إدارة مكتب «الجزيرة» في بيروت قبل 8 سنوات. يبوح لنا بأنّه فكّر، في العام الماضي، بترك البلد بهدف «الهروب من ضغط العمل اليومي»، أما الإغراء فوظيفة مشرف أكاديمي في إحدى الجامعات الأميركية في الخليج. ويتوقّع للمستقبل البعيد: «في آخرتي قد أصبح كاتباً روائياً».
في عام 1991، تزوّج غسان من ندى الحسيني، طبيبة الأسنان والاختصاصيّة في علم النفس، وهي مثله ابنة زواج مختلط: إيرانيّة من والدها، ولبنانية لجهة الأم. واحتفلا بزواجهما في خضم مؤتمر دولي كانت تنظمه إيران عن «القضية الفلسطينية». في إحدى جلسات المؤتمر وزّع بن جدو على الحاضرين قصاصات ورق صغيرة كتب عليها بخط يده نصّ دعوة لعقد قرانه في أحد طوابق الفندق. وما كان من معظم المشاركين، من الزعماء والسياسيين ورجال الدين والإعلام، إلا أن لبّوا الدعوة وحضروا عقد القران الذي أتمه السيّد محمد حسين فضل الله، وباركته شخصية دينية إيرانية رفيعة. كما نقلته محطة الـ«سي إن إن»، ما سرق الأضواء من المؤتمر!
لكننا لم نتحدّث عن تونس! يسرح بنظره قليلاً: «لم أزر تونس منذ 18 سنة، أتتخيّلين؟». وعلى باب المصعد يلفت نظرنا: «لبست الزيّ التونسي خصيصاً لاستقبالك.. تونس دائماً حاضرة في وجداني»!




5 تواريخ

1962 - الولادة في «القصور»، شمالي تونس
1980 - رحيل الأب وضعه أمام مفترق طرق
1991 - زواجه... «التاريخي» من ندى الحسيني
1999 - انضمامه إلى «الجزيرة»
21 تموز 2006 - في عزّ العدوان الإسرائيلي، المقابلة الشهيرة على «الجزيرة» مع السيد حسن نصر الله