نوال العلي لن تنسى أسمى خضر ذلك اليوم من عام 1984. كانت على موعد مع الأم الثكلى التي قابلتها قبل أيّام في المكان نفسه. انتظرت طويلاً، غادر كل من في المكتب، ومكثت المحامية المبتدئة آملة أن تعود أم القتيلة. يبدو أن الموعد ظلّ في مفكّرتها حتى اليوم هوّة فاغرة وجرحاً مفتوحاً على أقدار نساء أخريات ربّما تخلّفن عن مواعيد كثيرة مشابهة، منذ ذلك الوقت.
لم تأت الأم لتكمل الحكاية الدامية. ما الذي حال دون مجيئها؟ ممّ أو ممن تخاف النساء عادة؟ من الأب؟ الأخ؟ هل غلبها الشك؟ هناك أيضاً شبح المادتين 97 و98 من قانون العقوبات الأردني! ثمة أرقام مفزعة وتقارير تصدر دورياً: 200 جريمة شرف سنوياً في سوريا، وفي لبنان بين 7 و12 ضحية، ومنذ مطلع 2008 قتلت سبع نساء في الأردن بذريعة الشرف. «وما زال أمامنا سبعة شهور أخرى كي ينتهي العام». تهمهم السيدة التي أمامي، ثم تضيف كمن يهدّئ روعه: «لكن العدد كان ضعف ذلك قبل عشرين عاماً».
ذات يوم، أعدت ورقة عن المرأة في التشريعات الأردنيّة، وقدمتها في ندوة بحضور نخبة من المثقفين. لكنّها جوبهت بانتقادات ومعارضة قويّة في صفوف الجمهور، وخصوصاً من النساء: «لن ندافع عن عاهرات» صرخت إحداهن، وألقت بمداخلة خضر أرضاً قبل أن تغادر القاعة. المرأة نفسها ستركب الموجة بعد أعوام لتدافع عن ضحايا جرائم الشرف... ألم يصبح هذا الشعار حجة سهلة لإقامة جمعيات غير حكوميّة، مدعومة بسخاء من مؤسسات غربية مختلفة؟ «كنت خائفة من رد فعل المجتمع... لكنّ الذين هاجموني في البداية، يوم قرعت ناقوس الخطر، وحذرت من جور القوانين، وصرخت «كفى»، كانوا من النخبة «المتنوّرة». اليوم لحقوا بالقطار، صاروا نشطاء في حقوق الإنسان».
تلك التجربة لم تكن أصعب ما واجهته أسمى التي لم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب. كانت طالبة الحقوق في جامعة دمشق، حين اضطرت لقطع دراستها في العام الثاني، والعودة إلى عمّان، لإعالة أسرتها بعد أن ساءت صحة الأب. المرأة المولودة في أسرة مسيحية فقيرة، تسلحت بعنادها، وهي اليوم تسترسل في سرد تفاصيل نصف قرن من الكفاح، كأنها تعيشها الآن. ورغم ما يبدو من صرامة وقوّة على ملامحها، لا تخفي انفعالاتها ولا تكبح عفويّتها. تضحك حين تشاء، وتبكي أيضاً كلما جاء ذكر والديها، كأنها فقدتهما للتو. لقد كانت وراء دخول «أول ألف دينار» إلى منزل العائلة، تتذكر بفرح والدها وهو ينثر النقود على بناته الثلاث.
هي هكذا، امرأة تغيّر واقعها بالمجازفة. في عام 1976، أغرتها لوحة كتب عليها «للإيجار»، معلقة على أحد المتاجر. توقفت وفكّرت: «لمَ لا أفتح محلّ نوفوتيه». قوبل اقتراحها برفض العائلة طبعاً: المعلمة وطالبة المحاماة، كيف تعمل بائعة ملابس؟ وفي عمّان، ومن دون رأسمال! واجهت موقف والدتها بالامتناع عن الكلام والطعام، وأصرّت على خيارها. من كان يتصوّر أن مشروعها الجريء الذي أطلقته بالدّين، سيفتح أبواب الفرج لأسرتها، ويتعلم من دخله أشقاؤها وشقيقاتها، بل تنخرط والدتها في الحياة العمليّة لتدير المتجر بنفسها.
بقيت المحاماة حلماً مؤجلاً. فالظروف لم تكن تسمح بالتدرّج من دون كسب المال. عملت أسمى بائعة، معلمة، موظفة في محل ديكور، أعطت دروساً خصوصية، صارت صحافية. وبقيت مع كل هذا طالبة حقوق، تسافر إلى دمشق أثناء الامتحانات، ثم تعود لتقوم بالمهمات المفروضة عليها، وبتلك التي اختارتها طوعاً، إذ صارت عضواً في اتحاد المرأة الفلسطينية، ثم في الاتحاد النسائي الأردني.
حين بدأت أسمى خضر التدرّب على المحاماة، كانت تميل إلى قضايا الحريات، وترافع من دون أجر. أصبحت رئيسة لجنة الحريات في نقابة المحامين، ثم رئيسة لجنة المرأة في اتحاد المحامين العرب. واشتهرت آنذاك بأكثر من قضية إشكالية، جعلت منها اسماً معروفاً في فترة قصيرة، لا سيما أنها سادس امرأة تعمل في المحاماة في الأردن. كانت تلك سنواتها الذهبية (1984 ــــ 1993)، قبلت القضايا الخطرة، ودفعت رسوم بعضها من مالها الخاص. وكثيراً ما وضعها اندفاعها المخطط وحساسية ما تطرحه، في مواجهة مع المجتمع. فما الذي جعل امرأة راديكاليّة ومناضلة، تصبح وزيرة للثقافة في الأردن، وناطقة رسميّة باسم الحكومة في عام 2003؟
يسارية، ديموقراطية، عروبية، أخذت على عاتقها الدفاع عن المعتقلين السياسيين، شيوعيين كانوا أم سلفيين وإسلاميين، وحُقّق معها مراراً بتهمة الانتساب إلى كل هذه التنظيمات المتضاربة! كم سُئلت: لماذا تدافعين عن هؤلاء؟ من أين تتقاضين أتعابك؟ والآن تُسأل لماذا قبلت المنصب الوزاري؟ «قرأت البيان الوزاري الذي حمل كل ما أحلم به، وأتحدى أي مثقف يساري أن يضع مثله». لكنه مجرد بيان! ماذا عن التنفيذ؟ وكيف استقطبت خضر إلى العمل في الحكومة أصلاً؟
في عام 1990 استدعيت الناشطة في «المنظمة العربية لحقوق الإنسان» إلى القصر. طلب منها الملك حسين المشاركة في إعداد الميثاق الوطني... ومن هناك فُتح باب السياسة أمام المثقّفة المستقلّة التي لم تنخرط في أي من الأحزاب السياسية، فدخلت منه. خلال تلك الفترة، كانت القطيعة مستحكمة بين منظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، لكن أسمى خضر آمنت بضرورة كسرها حين شرعت في العمل على جرائم الشرف. وقد حققت بعض المكاسب الأساسيّة من خلال نضالاتها، مثل تمديد فترة اعتقال مجرم الشرف من ستة أشهر إلى خمس سنوات.
فهل ظنّت خضر أنها ستحدث الأثر نفسه في الحكومة؟ لقد دخلت إلى وزارة بلا ميزانية، ومع ذلك أعدّت مشروع «تفرغ المبدع» و«مدن الثقافة»، ورخصت المؤسسات الإعلامية المستقلة. ولم يمنع أثناء تسلمها مهمتها أي كتاب، وحين طلب مجلس الكنائس منع رواية «دافنشي كود» خاطبته قائلة: «وهل منعت في الفاتيكان؟». أعدت قانون حق الحصول على المعلومات، وعملت على تعديل قانون التأمين الصحي لتحقيق المساواة بين الجنسين، وحضّرت لمشروع دور إيواء المرأة. وهذا كلّه يعطي لكلامها شرعيّة أكيدة حين تقول اليوم: «التغيير لا بد أن يكون من داخل المؤسّسة، لا يجدي النقد من موقع المتفرج والشكّاء».
اليوم ما زالت أسمى خضر مشغولة بقضية شغلت قسطاً وافراً من حياتها: تغيير التشريعات التي تتضمن تمييزاً ضد المرأة. لا تتحمّس لتصنيفها كـ«نسويّة»، إنها «امرأة قانون» أولاً. قضية المرأة في جانبها الحقوقي تشغل الجزء الأكبر من نشاط الأمينة العامة لـ«اللجنة الوطنية لشؤون المرأة».
هذه المرأة العربيّة التي ساهمت في ربط مجتمعها بالعصر ــــ وهي أم لأربعة أبناء وجدة لحفيدين ــــ تنظر إلى الشراكة مع الرجل أساساً لكل تقدّم. تملك صورة إيجابيّة عن الرجل وتدافع عنها وتروّج لها: الوالد المنفتح، الأخ الداعم، الزوج الحبيب، الابن الحادب. حياتها العامّة الحافلة توازيها حياة عائلية ناجحة. ولا تنسى فضل والديها: «لولا والدي لما كنت أنا، فكرياً... ولولا والدتي لما كنت أنا، عملياً».
وإذا سئلت أسمى خضر عمّا يوجعها، تطيل الصمت. ثم ترفع رأسها لتقول: «الفشل الجماعي... وحالة الإحباط العام التي نعيشها كعرب في هذا القرن الجديد».


5 تواريخ

1952
الولادة في فلسطين
1974
اتخذت قرارها بدراسة الحقوق
في جامعة دمشق
1974
ترأست لجنة المرأة في «اتحاد المحامين العرب». ثم ترأست «اتحاد المرأة في الأردن» بعدها بتسع سنوات
1990
شاركت في وضع «الميثاق الوطني»
الذي عُدّ منعطفاً أساسياً في التاريخ الأردني الحديث
2003
عيّنت وزيرة ثقافة في الحكومة الأردنيّة. وبعدها بثلاث سنوات أصبحت الأمينة العامة لـ«اللجنة الوطنية لشؤون المرأة»، وما زالت تشغل هذا الموقع حتى الآن.