بينما يتجه إنتاج الغذاء نحو تصدّر أولوية الأهداف، على لبنان أن يعيد النظر في استنفاده لثروته المائية التي يصدّرها في شكل منتجات زراعية، وخصوصاً أن أطماع إسرائيل في مياهه ما زالت تمثّل تهديداً خطيراً
إعداد رنا حايك
المياه هي العامل الأكثر تأثيراً في إنتاج الغذاء في بلدان عديدة من العالم. فنصف سكان العالم الذين يعانون من «شح المياه» يتركزون على جنوبي شاطئ البحر الأبيض المتوسط وشرقيّه، في بلدان يسيطر عليها الفقر وعدم المساواة. بينما تتضمن مناطق أخرى تعاني من شح المياه بعض أفقر البلدان في العالم كاليمن ومالي ونيجيريا وتشاد وإثيوبيا والصومال. بالإضافة إلى شح المياه، تعاني هذه البلدان في معظمها من ضعف أنظمة الحكم فيها.اعتمد المزارعون في الأراضي الجافة على مدى التاريخ تقنيات متنوعة للتقنين في استخدام المياه وأساليب هندسية من علم المياه خوّلتهم الاستفادة من مصادر المياه المتجددة المتوافرة لهم. ففي جبال لبنان، لجأ المزارعون إلى بناء الجلول (المدرجات) التي تحفظ الماء والتربة.
بينما نقل مزارعو العراق وإيران المياه من خلال تطبيق أنظمة قنوات الريّ.
هناك أيضاً بعض التقارير التي تدلّ على لجوء المزارعين إلى تقنيات الري «بالتنقيط»، باستخدام أوعية الطين والقصب، لإنتاج الخضار في المناطق شبه الصحراوية.
بالإضافة إلى ذلك، أتاحت أنظمة الزراعة الرعوية التي تجمع بين إنتاج الحبوب وإنتاج المواشي لأهل البادية زيادة استخدام مياه الأمطار النادرة إلى حده الأقصى.
وللمفارقة، اعتمدت البلدان التي «تتضور عطشاً» منذ قيام الثورة الخضراء العالمية في الستينيات من القرن الماضي، استراتيجيات تعزّز الزراعة المكثفة التي تستهلك المياه في سبيل تلبية الطلب على الغذاء وتحفيز الزراعة المعدّة للتصدير التي كان من المتوقّع أن تكون مصدراً مهماً في إدراره للعملات الصعبة.
سعت هذه البلدان «الجافة» إلى بناء المزيد من السّدود، وحفر المزيد من الآبار وتعزيز البنى التحتية المتعلقة بتوفير المياه بهدف تقويم الجانب التزويدي في إدارة المياه.
اليوم، قطاع الزراعة مسؤول عن استهلاك ما يفوق 85% من مجمل كمية المياه المستهلكة في البعض من هذه البلدان، ومنها لبنان، حيث يمارس الري بفعالية متدنية، أحياناً لا تتعدّى 50%. يعني ذلك أن النبتة تستخدم نصف كمية المياه المستخرجة من بئر أو من قناة لتنمو. أما ما بقي من المياه، فيضيع هدراً.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم كميات كبيرة من المياه التي تُستخرَج من مصادر عدة في ري المزروعات ذات القيمة العالية المعدّة للتصدير لا للاستهلاك المحلي، فيما يحرم الفقراء في المناطق الريفية أو الحضرية من الحصول على مياه نظيفة ونقية للشرب أو حتى للاستخدام المنزلي. تتفاقم الأزمة في مصر، حيث تفتقر الأحياء التي يسكنها المعدمون أو المنتمون إلى الطبقة الوسطى إلى المياه النظيفة بينما لا تنقطع المياه النظيفة عن ملاعب الغولف التي يؤمّها الأغنياء والسّياح حصرياً وعن مشاتل المزروعات المعدة للتصدير.
اليوم، معظم البلدان الواقعة في المنطقة الجافة من العالم استنفدت مصادر المياه الخاصة بها، وتعتمد كثيراً على التجارة لتستورد المياه في شكل غذاء. هكذا هي حال بلدان الخليج العربي.
وفي لبنان، تُستَغَلُّ المياه الجوفية بطريقة غير مستديمة على الإطلاق، كما تُصَدَّر المياه المتجددة على شكل بطاطا أو علف حيواني.
نتيجة لذلك، انخفض مستوى المياه الجوفية في البقاع مئات الأمتار خلال عقود قليلة، وكل المعطيات تنذر بارتفاع خطير لتكلفة ضخ مياه الشرب والاستخدام المنزلي خلال السنوات القليلة المقبلة.
مع ذلك، وفيما تتابع أزمة الغذاء تفاقمها وانتشارها، لا يزال إنتاج الغذاء يحتل أولوية الأهداف، ومن المتوقع أن تصبح الزراعة نشاطاً اقتصادياً استراتيجياً.
إذا اعتمد لبنان هذه المقاربة، فسيكون علينا مراقبة ما نزرعه عن كثب ومراقبة كمية المياه التي تستهلكها هذه الزراعات: المياه اللازمة لإنتاج طن من البطاطا في مقابل إنتاج طن من القمح، وبالنتيجة، كمية المياه القيّمة التي نصدّرها في الواقع. سنحتاج حتماً إلى اعتماد استراتيجية تحافظ على المياه، وتضمن أننا نحسن استخدام المياه المتوافرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بريّ المزروعات المخصصة للتصدير.
علينا الأخذ في الاعتبار أن كل طن من المنتجات المعدة للتصدير يوازي عشرات الأطنان من المياه اللازمة لإنتاجه. كما علينا أيضاً أن نعي الأطماع الإسرائيلية في مياهنا، وخصوصاً أن الأراضي المحتلة تتعرّض للجفاف بعدما أنهكوها واستنفدوا مياهها. فمقاومتنا يجب ألا تقتصر على تطوير استراتيجية عسكرية دفاعية وطنية، بل عليها بالضرورة أن تتضمن استراتيجية وطنية للحفاظ على مياهنا.