ترسم بعض الأسر اللبنانية شجرة العائلة، وتعيد تاريخها إلى الحروب الصليبية، فيما تعدّ عائلات أخرى «أجدادها» من شبه الجزيرة العربية... حتى الماضي القريب، كانت تلك الأفكار تصنّف في إطار البحث التاريخي الشخصي، أما اليوم، فقد أصبحت واقعاً علمياً حقيقياً بعدما تمكن الدكتور بيار زلوعا من خلال مشروع الـ«جينوغرافيك» من تمييز جينة R1b لدى أبناء بعض المناطق اللبنانية.تعدّ هذه الجينة من مميزات شعوب شمال أوروبا «مما يدفعنا إلى اعتبار الحروب الصليبية بمثابة «حركة هجرة» من أوروبا نحو ساحل دول المشرق، أدت إلى «استيطان» بعض المحاربين الذين تدفقوا إلى الشرق بين القرنين الحادي والثالث عشر ميلادي، سكنوا في هذه البقعة من العالم وتزاوجوا من الشعب الأصلي». وقد لاحظ زلوعا ظاهرة مماثلة تمت مع الفتح الإسلامي (أي بين القرنين السابع والثامن ميلادي)، ويقول إن «جينة J1 التي تميّز شعوب شبه الجزيرة العربية موجودة أيضاً في شرائح المجتمع اللبناني، مما يشير إلى أن الفتح العربي قد أدى أيضاً الى حركة استيطان وزواج في هذه المنطقة».
والجدير بالذكر أن مشروع الـ«جينوغرافيك» ليس الأوّل من نوعه لدراسة توزّع جينة J1 من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد المشرق وشمال أفريقيا، فدراسات أخرى سابقة تؤكد ذلك، ولكنها المرة الأولى التي تظهر فيها جينات «الصليبيين» لدى شعوب المنطقة. ومن المعروف تاريخياً أن الحروب الصليبية كانت أشبه بحركة نزوح هائلة ترافقت مع حروب امتدت ثلاثة قرون من شمال أوروبا باتجاه القدس وساحل المشرق. ومن المعروف أيضاً أن بعض الصليبيين لم يعيشوا داخل قلاعهم طوال تلك الفترة، بل تعايشوا مع أهل المنطقة وتزاوجوا منهم.
ويقول زلوعا: «إن العثور على هذين الجينين ليس مستغرباً بذاته، ولكنه أمر لافت». ويؤكد أن فترات «الحروب» تلك أدت إلى «إغناء شعوب المنطقة» وتركت أثراً لا يقتصر على الجانب التاريخي والحضارة بل وصل إلى الإنسان أيضاً، فيما لمّ يتم ذلك في فترات أخرى من التاريخ في لبنان. فنحن لم نعثر مثلاً على جين العثمانيين، أو الرومان في العيّنات التي حلّلناها. ولم نلحظ شواهد في الدم المفحوص على هاتين الفترتين من الزمن، رغم أنهما امتدتا لعدة قرون».
ويؤكد زلوعا أن العثور على هاتين الجينتين ليس بالأمر السهل، «فحاملو» تلك الجينات أقلية قد لا تتجاوز الـ1 أو الـ2 في المئة من أبناء الشعب الذين يتشاركون بشكل لافت جيناً واحداً هو الـJ2.