strong>سعد اللّه مزرعاني *حين وصف وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس حزب «العمل»، إيهود باراك، القرار الدولي 1701 بأنه «فاشل»، إنما كان يعبّر، بغضب ظاهر، عن خيبة إسرائيلية جديدة تُضاف إلى «إخفاقات» «حرب تموز» وخيباتها. وقصة القرار 1701 لم تكن عادية. يومها حاولت الولايات المتحدة الأميركية تعويض إسرائيل من خلال السياسة ما عجزت هذه الأخيرة عن تحقيقه بواسطة قواتها المسلحة. لقد استخدمت واشنطن كل نفوذها وعلاقاتها وتأثيرها وضغوطها من أجل أن تكون النتائج السياسية مجسَّدة في القرار الدولي المزمع إصداره، متعارضة مع مجريات تلك الحرب وخلاصاتها العسكرية والسياسية والإنسانية والأخلاقية.
وبعد فشل الإدارة الأميركية والآلة العسكرية الإسرائيلية، لجأت واشنطن خصوصاً إلى ربط وقف إطلاق النار بإرسال قوة تعمل تحت البند السابع وتكون لها صلاحية وقدرة الاشتباك مع المقاومة، بالتعاون مع الجيش اللبناني.
ورغم فشل هذه الفكرة أيضاً، فقد حاولت واشنطن تنفيذ جزء منها في النص المقرّ تحت الرقم 1701، آملة أن يحصل ذلك من خلال الواقع الميداني وتركيبة قوات «اليونيفيل المعززة»، وإحداث تغييرات في طبيعة السلطة ومواقفها في لبنان. وفي امتداد السنتين الماضيين، جهد الإسرائيليون في سبيل دفع القوات الدولية نحو مهمة الاشتباك مع المقاومة. وحين لم تستجب تلك القوات لمنزلق يتعارض مع وظيفتها وتكليفها، بادرتها القوات الإسرائيلية بالاستفزاز والاعتداءات والخروق.
الجيش اللبناني لم يستدرج، هو الآخر، إلى ما يتعارض مع تكليفه الدولي ومع واجبه الوطني. فشل سياسي إسرائيلي، هو قبل ذلك وبعده، فشل أميركي أيضاً. والفشلان يلقيان بثقل مزعج وكبير على طموحات ومشاريع وأشخاص كانوا يعتقدون أن ما تملكه واشنطن دولياً، وما تملكه إسرائيل إقليمياً، لن يصمد في وجهه أحد.
اقتناع عزّز من اندفاعه عدد مهم من الحكام العرب «المعتدلين» إلى درجة الانحياز الكامل للمشروع الأميركي والإسرائيلي حيال غزو لبنان ومحاولة تدميره و«إعادته 50 سنة إلى الوراء»، بذريعة (أو بهدف) القضاء على المقاومة واستعادة الجنديين المخطوفين! إن المحصلة الإسرائيلية من حرب لبنان الثانية الكبرى (بعد غزو عام 1982)، هي شديدة السلبية والتعقيد، وذات نتائج يضرب بعضها في عمق الكيان الصهيوني. بالدرجة الأولى، يجب الإشارة إلى عمق أزمة القيادة في إسرائيل. ففي حرب 1982 كانت هزيمة بيغين وشارون أخلاقية أكثر منها عسكرية، بعد مجازر صبرا وشاتيلا. أما في حرب 2006، فقد تساقطت الرموز الإسرائيلية بشكل غير مسبوق: من رئيس الأركان، إلى نائبه، إلى قائد الجبهة الشمالية... إلى وزير الدفاع، إلى أولمرت نفسه.
انهيار القيادة هذا، لم يكن سياسياً وعسكرياً فحسب، بل كان أخلاقياً أيضاً. وليس المقصود هنا فقط استخدام سياسة المجازر والتدمير، وهي سياسة جبانة، بل بالأساس انخراط القادة الأول في السلطة وفي الجيش في صفقات وحسابات تجارية وفئوية، من النوع الرخيص والمباشر والمعيب.
يلي ذلك من حيث الخطورة، بروز قدرة حقيقية على تعطيل سلاح الجو الإسرائيلي. وهذا السلاح هو الأكثر تطوراً في المنطقة، وهو أداة الحسم التقليدية في حروب إسرائيل.
ولا يستطيع باراك أن يفعل الكثير رغم كل تهديداته، لأنه هو من بنى أمجاده عام 2000 على الانسحاب المفاجئ من لبنان، وكان قبل ذلك قد كسب الانتخابات تحت هذا الشعار (تماماً كما يفعل شبيهه في الاسم باراك أوباما اليوم، وهو يعد الأميركيين بانسحاب سريع من العراق)!
كانت الحرب طويلة بالنسبة إلى الإسرائيليين، وكانت مكلفة وخطيرة ومصيرية. لذلك فقد تعزز القلق، ومع القلق تصاعدت الهجرة، وتنامى الاستنكاف عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية (إلى 57 في المئة أخيراً).
وها هو أولمرت يتصرف كأي حاكم مستبد يقدم بقاءه في السلطة على كل ما عداه. وهذا أيضاً مظهر إضافي من «أزمة القيادة» في إسرائيل.
لقد أدرك «المعتدلون» العرب فداحة ما حصل لإسرائيل! وهم عوض أن يشاركوا أمير قطر استنتاجه الذي أعلنه من بيروت فور انتهاء العدوان، أن إسرائيل «دولة قابلة للهزيمة»، سارعوا إلى محاولة تقديم كل الدعم المباشر وغير المباشر لها. حصل ذلك حين طور هؤلاء مستوى علاقتهم مع إسرائيل إلى درجة حلف معلن سياسي وأمني، ترعاه واشنطن وتوجهه إلى المقاومة وإلى داعميها، السوريين والإيرانيين.
لا يستثمر الوضع العربي، بسرعة وبسهولة، كل النتائج الكبيرة التي نجمت عن «الإخفاقات» الإسرائيلية، وأكبر منها الإخفاقات الأميركية في العراق خصوصاً، والمنطقة عموماً. والوضع الفلسطيني هو، للأسف، الأكثر عجزاً عن الاستفادة من الصعوبات الإسرائيلية. الفرصة متاحة في لبنان لبدء معالجة الخلل الطائفي في نظامه وفي علاقاته الخارجية. كذلك الفرص الآن كبيرة جداً لتطوير حركة تحرر عربية.
المبادرة مطلوبة على أكثر من صعيد. والحديث في هذا الشأن مفتوح، حتى بلورة برنامج وصيغة وعلاقات تستلهم قيم السيادة والاستقلال والحرية والديموقراطية والمشاركة والتنمية، وتستفيد من تجارب الحاضر والماضي في ولادة مرجوة جديدة لمشروع تحرري تتكامل عناصره وتتفاعل قواه السياسية والشعبية في إيقاع واحد، وإن تعدّدت النغمات وتعدد العازفون!
* كاتب وسياسي لبناني