صباح علي الشاهر *جرت الأمور من دون تعقيد، ولم تحدث مفاجآت غير متوقعة في اللحظات الأخيرة، وبات سمير القنطار، عميد الأسرى اللبنانيين والعرب في حضن أهله وأحبابه، بعد ثلاثين عاماً من الأسر في السجون الإسرائيلية. وها هي جثامين ورفات الشهداء منذ عام 80 قد عادت لتدفن في أرض لبنان. هل بإمكان أحد التقليل من أهمية مغزى حدث كهذا؟
أستحضر الآن بعض كلمات الصديق الراحل الشاعر رشدي العامل: «إذا كانت حقاً تدور، فلماذا وجهها دوماً لهم، ولماذا ظهرها دوماً لنا؟». كانت الثورية وقتها ترفض الهزيمة، فكيف إذا أضحت هزائم، ترفض الانكسار؟ فكيف إذا أضحت انكسارات؟ وكنا ما إن نخرج من هزيمة حتى ندخل في أخرى، لا على النطاق الوطني ولا القومي فحسب، بل حتى الأممي، حتى أضحى رفضنا رفض المُحبَط والعاجز والمكسور. تولّد لدينا يقين مفاده أن ليس ثمة شيء على أرضنا العربية أرخص من الإنسان، حياً أو ميتاً. كان حكامنا يعملون بجد لتأكيد هذه القناعة وتثبيتها في كل مفصل من مفاصل الحياة. كانوا بتأكيدهم وتثبيتهم لمفهوم كهذا يحبطوننا.
من جهة أخرى، لم نكن نريد الاقتناع بأنهم هناك في الغرب يهتمون بالإنسان لذاته، فهذا مُخالف لما نؤمن به. كنا نردّد دوماً أنهم يُتاجرون بالقضايا الإنسانية. قال لنا شيخ طاعن في السن كان يشتغل بائع شاي في مقر جريدتنا: فليتاجر حكامنا مثلما يتاجرون، على الأقل سنحسّ أن لنا قيمة، قولاً لا عملاً، فهذا مستحيل وأنتم أدرى.
قول العجوز هذا استقطر من رشدي العامل في ما بعد قصيدة لا أحلى ولا أروع، فأي قصيدة كان ليكتبها لو أن العمر امتد به ليشهد مثل هذا اليوم الذي يؤكد فيه أبطال هذا الزمان أن ليس ثمة ما هو أغلى من إنساننا العربي، حياً أو أسيراً أو ميتاً. حدث كهذا ينبغي وضعه في إطاره الصحيح. إنه يشير إلى مرحلة ينبغي أن نؤسس عليها، مرحلة يكون الإنسان لذاته عنوانها الأهم والأعلى والأقدس.
من يباهلنا الآن، لا حماسة فارغة، بل واقعاً شاخصاً مُجترحاً؟ أي بلد عربي ــــ ومن باب المناكدة الضرورية واللازمة ــــ سأل عن أسراه أو قتلاه أو أشلاء شهدائه؟ وهل يعرف أين هم، وكم عددهم؟ لقد عقدوا اتفاقيات سلام كبّلتهم بما كبّلتهم به، فأعادت الأرض منقوصة السيادة، والإرادة مقيَّدة، بينما أعاد لبنان أرضه من دون معاهدات ولا اتفاقيات ولا شروط، مجحفة أو متساهلة، وها هو ذا اليوم يُعيد أسراه وجثامين شهدائه وأشلاءهم والعدو مرغم وحتف أنفه.
عندما أسرت المقاومة الجنديين الإسرائيليين، انطلقت الأقلام المُبرمجة تُحبر مئات بل آلاف المقالات عن «العمل المُتهوّر الذي لا ولن يستعيد القنطار ولا أياً من شهداء لبنان». وبعد سبات طويل، انطلق هدير الحكماء العرب ناصحاً مذكراً ومحذراً، وفي الحق متطفلاً، فاللعب ليس لعب هذا النفر والساحة ليست ساحته، والزمن قد تجاوزه بعدما غيّر المقاومون قواعد اللعبة.
أكثير إن زعمتُ أن الانتصار الثالث على التوالي يدشّن حدثاً تاريخياً، لا للبنان فحسب، بل لنا نحن العرب جميعاً؟
في تاريخ الأمم والشعوب منعطفات ينبغي أن تُقتَنَََص، ثم يؤسّس عليها ويُبنى. سينبري البعض للتقليل من شأن ما جرى، سيحاولون تسطيحه وتهميشه، وربما لن يجدوا فيه انتصاراً، مثلما لم يجدوا في حرب تموز انتصاراً، ولعلّهم لم يروا في خروج إسرائيل المُذلّ من لبنان انتصاراً، هؤلاء تعجز عيونهم عن رؤية نور الانتصار.
يبدو أنهم مُحصَّنون فكرياً ووجدانياً من تقبّل أي انتصار. وحيث إن الانتصار ليس بقاماتهم أو قامات أولياء نعمتهم، فإنّهم يعتقدون أنه لن يكون بالتالي بقامة أي كان. كيف تنتصر جماعة، ودولة صغيرة، وتعجز عن الانتصار دول كبرى بكل جبروتها؟ هل لها جبروت فعلاً؟ ذلكم هو هاجسهم، لكن الانتصار يأتي لمن يسعى إليه لا لمن يهرب منه.
هل سيكون أنصار الانتصار، وأعداء الهزيمة، مضطرين للدفاع عن انتصار أواسط تموز؟
هذه المرّة، وبكل ثقة أقول لا. النصر يُعبّر عن نفسه بأشد ما تكون البلاغة والفصاحة.
أيّ درس يعطيه هذا البلد الصغير، العصيّ على الإدراك؟ أيّ نهج هذا الذي اختطّه لبنان المقاوم لا المساوم؟ شكراً للبنان كله، شكراً لمقاومته.
* كاتب عراقي