نسيم الخوري *يروي رئيس مجلس النوّاب، نبيه برّي، أنّه عندما كان وزيراً للدولة في حكومة عمر كرامي في عام 1991، وكان الرئيس إلياس الهراوي مترئساً إحدى الجلسات، تمّ تعيين فؤاد الترك أميناً عامّاً لوزارة الخارجية خلسةً عن أعضاء الحكومة، مع أنّه لم يكن مدرجاً بنداً على جدول أعمال مجلس الوزراء. وعند انتهاء الجلسة، ضاع الوزراء في قاعة مجلس الوزراء في القصر الجمهوري بين حقيقة التعيين وعدمه.
استوضح برّي زميله محسن دلّول حقيقة الأمر، فأجاب: نعم، تمّ تعيين فؤاد الترك. سألنا الوزير إيلي حبيقة، قال برّي، فأجاب: كلاّ لم يعيَّن! سألنا الوزير عبد الله الأمين، فقال: نعم عيّنوه. وضاعت الطّاسة بين أجوبة الوزراء المتناقضة. تشاورنا مجموعة من الوزراء، وذهبنا مباشرةً إلى منزل الرئيس عمر كرامي الذي كان قد غادر على عجل، وكان يقطن آنذاك في ناحية من نواحي فردان.
قرعنا بابه وكان يصلّي. فوجئ وسأل: خير إن شاء الله. قال له برّي: هل عيّنت فؤاد الترك أميناً عامّاً للخارجية؟ فأجاب بالنفي مندهشاً. وكان لا بدّ من الاستفسار من الأمين العام لمجلس الوزراء هشام الشعّار الذي أكّد التعيين. اتّصل كرامي بالرئيس الهراوي مستفسراً، وعندما أكّد له الأمر، دفع كرسيّاً كانت أمامه برجله، وأجاب بنبرة حازمة: اعتبر الحكومة مستقيلة.
أمّا كيف حصل الأمر، يتابع برّي، فقد هَمْهَمَ الرئيس إلياس الهراوي، وهو نصف قاعد، بكلامٍ غير مفهوم للأمين العام للمجلس، مع انفضاض الجلسة، بتدوين تعيين الترك، حيث كان رئيس الحكومة قد غادر القاعة. أمّا الوزراء، فكانوا يتسامرون على الواقف، أو ينهمكون في ترتيب حقائبهم أو ياقاتهم، أو يهاتفون أو يحادثون الصحافيين أمام الباب، أو يستفسرون عن أمورٍ كثيرةٍ فاتتهم...
يتذكّر اللبنانيون منذ ذلك التاريخ مدى المعارضة القاسية التي ساقها برّي مطالباً بوضع نظام داخلي لآلية عمل مجلس الوزراء. يمكن القول إنّه بقي واقفاً بالمرصاد لهذا الموضوع طوال عمله الوزاري، بينما رأى البعض من المرجعيّات، أنّ المطالبة بهذا النظام الداخلي والإلحاح عليه هو نوع من الافتئات على حقوق الطائفة السنّية التي راحت تقول خطأً إن السلطة إذ أصبحت في مجلس الوزراء، فهي تكاد تكون حكماً بيد رئيس الحكومة بالنسبة إلى هؤلاء.
وكان الاعتبار السني هذا قياساً على تاريخ حكم الرئيس الماروني الذي أورث الإحساس بالغبن والحرمان.
قبل تناول هذه النقطة الأساسية بدقّة، أي آلية عمل مجلس الوزراء، التي تُعَدُّ النقطة الأساسية التي «تكربج ماكينة» الحكم في لبنان على مستوى السلطة التنفيذية، منذ ذلك التاريخ، يفترض الإشارة إلى ملاحظاتٍ ثلاث:
الأولى هي النتيجة: إلغاء تعيين فؤاد الترك مجدّداً، بالطبع، مع العلم بأنّه كان قد شغل هذه الأمانة العامة لوزارة الخارجية والمغتربين قبلاً، أي بين 1983 و1988، وغادر في ما بعد سفيراً في فرنسا، وبعدها في سويسرا.
وكان الرئيس رفيق الحريري قد اتّصل به في عام 2003 من القصر الجمهوري وعلى مسمع من الرئيس إلياس الهراوي، طالباً منه، لربّما تعويضاً عن هذه الحادثة، القبول بتعيينه مديراً عاماً في القصر الجمهوري، لكنه رفض بالرغم من حضوره إلى بيروت، ولأمورٍ شخصية.
جاءت هذه الرواية لبرّي في كتاب نبيل هيثم، بعنوان: «أسكن هذا الكتاب» الذي يقصّ فصولاً عن حياة برّي، ومنها هذه الرواية التي يكررها أمامنا لأهميتها بالطبع، ولارتباطها بمسألة كبرى يعانيها لبنان، هي آلية عمل السلطات وكيفية الفصل في ما بينها وتعاونها وتكاملها، وهي التي آلت في مجلس الوزراء إلى مقاطعة بعض الوزراء، وتقديم استقالاتهم احتجاجاً على سياسة الاستئثار والتسلّط وعدم الاستئناس الدائم برأي الوزراء وتجاوز الدستور، ورفض المشاركة، وصولاً إلى تحقيق الثلث الضامن أو المعطّل الذي يتمثّل بـ11 وزيراً في الحكومة الحالية المؤلّفة من قلب الأزمات والأحداث والانقسامات.
إنّ كلّ ما شهده اللبنانيّون في العامين الماضيين، أو منذ اتفاق الطائف، من دويكا وترويكا ومآسٍ وكباش سياسي أدخل دول العالم إلينا، ليس شيئأً كبيراً قياساً على عمق الأزمة في ممارسة الحكم التي قد تتجدّد في أيّ لحظة، وحيث يفترض التفاهم والإجابة بوضوح وصراحة عن سؤالٍ واحدٍ هو: كيف يعمل مجلس الوزراء؟ أو ما هي آلية عمله؟
صحيح أنّ هذه المعضلة قد حُلَّت شكليّاً، مع صدور مرسوم ينظّم عمل مجلس الوزراء، بينما كان من المفترض أن يصدر هذا التنظيم بقانون عن مجلس النوّاب، وهذا خطأ تنظيمي يقرّ به رئيس مجلس النواب، ويفترض أن يقرّ به الجميع وفي طليعتهم المتجذّرون منذ عام 1992 في نعم السلطة الوزارية الواسعة ومغانمها، فيعملوا جميعاً على إيجاد حلولٍ جذرية له وإلّا؟... وإلاّ ماذا؟ هنا قصّة مفيدة:
سأل الرئيس سليم الحص في مداولات إحدى جلسات الأمانة العامة الأسبوعية لـ«منبر الوحدة الوطنية»، إن كانت مسألة الثلث الضامن، ستتحوّل عرفاً أو أنّها ستأتي لمرّة واحدة في أعقاب أزمة سياسية تستوجب التوافقية في الحكم، وماذا لو وصلت المعارضة إلى الحكم في أعقاب الانتخابات البرلمانية المنتظرة في العام المقبل، هل تقبل أن تشاركها الموالاة التي ستنقلب إلى معارضة بالثلث الضامن عينه؟ واختلفت الآراء، مع أرجحية الرئيس الحص لأن تكون مسألة الثلث الضامن لمرّة واحدة، وإلّا ففي تكريسها عرفاً انتفاءً لمبدأ الديموقراطية في الحكم.
وكان رأيي في الموضوع، أنّ مستقبل هذه المسألة مرتبط بطريقة تغيير أداء مجلس الوزراء، وكيفية ممارسة رئيس الحكومة لسلطاته في داخل مجلس الوزراء، وطريقة إدارة الحكم وتوزيع المناصب والحصص في البلاد، وإلّا، فاشكر ربّك يا دولة الرئيس إن بقيت المعارضة راضية بالثلث الضامن فقط.
حملت هذا السؤال وطرحته على الرئيس نبيه برّي الذي أجاب بثقةٍ، ومن دون أدنى تردد: طبعاً نعطيهم. وحبّة مسك أيضاً.
طرحت سؤالاً واحداً على مجموعةٍ من الوزراء الأصدقاء: هل كنت تشعر بضيقٍ وحرج أو امتعاض وقرف في أثناء حضورك جلسات مجلس الوزراء، أو في طريقة تسيير جدول الأعمال، وأخذ القرارات؟
يأنف الحبر من نشر ما سمعت من السادة الوزراء أو نقله، وأكتفي بما أسرّ به أحدهم بأنّه «لطالما كان يحتقر نفسه لأنه وزير». وقال: «حتّى زوجتي وبناتي كانوا يعيّرونني ويحضونني على الاستقالة إن كنت أعاني إلى هذا الحد».
يكفي الاختصار بأنّ السياسة، بهذا المعنى، صارت عيباً في لبنان. فكثير من الذين شاركوا في أكثر من حكومة منذ عام 1992، تاريخ انتقال السلطات، بموجب دستور الطائف، من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، ومنح الوزير سلطات لم تكن لديه في لبنان منذ حكومات 1943 التي كان فيها مجمل الوزراء السابقين والمستوزرين، يغلّون في حضن رئيس الجمهورية لاستمرارهم في «جنّة الحكم»، وهم اليوم يغلّون في مجموعةٍ من الأحضان احتفاظاً بلقب معالي الوزير الذي يخلعه هؤلاء عبئاً أمام الباب قبل دلفهم إلى بيوتهم. وقد لا أغالي إن قلت، معتذراً من فقر القرّاء وأصالتهم، إنّ مختصر ما نصل إليه إن عصرنا تعليقات السادة الوزراء وامتعاضاتهم أنهم كانوا «مثل الأطرش بالزفة»، تجري المياه من تحت أرجلهم الممدودة تحت طاولة مجلس الوزراء.
قلنا كانوا؟ ويمكن القول إنهم ما زالوا لطالما يتصالح الماضي مع المستقبل اللبناني والعربي.
وهنا أسئلة مشروعة: هل نصدّق أن أزمة الحكومة ستكون قائمة في البيانات الوزارية وكيفية إعدادها من طريق تكرار ما سبقها أو باستنساخ خطب القسم، وتأكيدها على موضوع ربط الشرف اللبناني والمستقبل اللبناني بالمقاومة، أم أنها ستكون أزمة أشرس في طريقة الأداء والمشاركة في داخل مجلس الوزراء؟
قطعاً نميل إلى الشق الثاني من هذا السؤال، بالرغم من معضلة نص البيان الوزاري والدوران المشبوه حول سلاح المقاومة، لأن المقاومة، لا يقرّر مصيرها بيان وزاري ولا خطاب سياسي، ولا مراهنة على خارج، ليس في لبنان وحسب، بل في تاريخ كلّ المقاومات التي عرفها البشر، وإن كان ما شهدناه ونشهده في لبنان لا مثيل له من حيث تعاملنا مع هذه المقاومة.
وهنا نشير إلى أن الكلمة التي أدمنها السياسيون والإعلاميون وهي «استراتيجية الدفاع الوطني» هي فن إدارة الحروب والعمليات العسكرية والصراعات مع العدو! فعلى أية استراتيجية يتكلّم المتفوهون من السياسيين والوزراء؟ لربّما على استراتيجيات مستوردة أو مترجمة عن اللغة الإنكليزية قد يسقطها البعض فوق طاولة الحوار في بعبدا التي لا نعرف حتّى الآن من سيتحلّق حولها وكيف سيرسمون من خلفها، معالم الوطن ومستقبله ومستقبل أبنائه الرحّل.
أغلب الظن أنّ بعبدا سترفع صوتها في الثوابت الوطنية وصيانة الوطن. وقد كانت لافتةً رزانة الرئيس ميشال سليمان في زيارته الأخيرة لباريس وحزمه وثقته بقناعاته ووطنه وتأنيه في مسؤولية الكلمة وجراته عندما قال إنّ الدبلوماسية إذ تفشل في التحرير، هناك القتال.
سؤال آخر: من هذا الذي ألّف الحكومة؟ فؤاد السنيورة بالتعاون مع رئيس الجمهورية، أم نبيه بري وحسن نصر الله وميشال عون وسمير جعجع ووليد جنبلاط وسعد الحريري والمطران إلياس عودة وأمين الجميل وميشال المر، لتـأتي الحكومة على لسان رئيسها صناعة محلّية مئة في المئة وهو يعلنها بنكاية مستورة مخفية بضحكة معبّرة، عندما لوحظ وهو يصرخ منفعلاً كعربي ابن عربي إيمانه بالعروبة وبالعلاقة مع سوريا الشقيقة، ولكنها العلاقة النَدّية (بفتح النون كما جاء على لسان السنيورة).
مهلاً دولة الرئيس. لنفتح المنجد أيضاً وأيضاً: نَدّ بفتح النون تعني نفر وتنافر واختلف وذهب شارداً عن الطريق. ويُقال ندّت الكلمة بمعنى شذت وصرّحت بالعيوب وأسمعت الآخر القبيح من القول وبالصوت المرفوع الذي يطلق من فوق الأكمة أي التل المرتفع.
أمّا النِدّ بكسر النون، فتعني المثل أو النظير أو التساوي مع الآخر. ولا أظنّ لبنان السياسي يرغب كثيراً في استمرار معزوفة النَدّية (المفتوحة) لا في المقاومة ولا في العلاقات السورية ــ اللبنانية ولا في كيفية ممارسة الحكم التنفيذي.
نعرف أنّ الرئيس رفيق الحريري، كان ينزعج جدّاً من القوانين العثمانية الموروثة، التي كان يشكو مع بداية حكمه، أنها تشل الحاكم عن الحركة، وهي ما زالت تتحكّم بالسلف المالية والمناقصات وأصول الصرف والإنفاق والشراء في لبنان الرسمي، إذ إن شراء أوقية من البن يحتاج إلى أكثر من ثلاثة عشر توقيعاً من الموظفين من الأزلام والمحاسيب المتجذرين في إدارات الدولة، مع ما يعني ذلك من فساد ورشوة وقهر للمواطنين البؤساء. وهو هو الذي أوكل إلى السنيورة منذ ذلك التاريخ بيت مال اللبنانيين أعني وزارة المال.
منذ الـ1992 والرئيس السنيورة يتحكّم ببيت المال هذا مباشرة أو عبر تعيينه وزير دولة للشؤون المالية تابعاً لرئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري آنذاك، وهو اليوم ينسخ تماماً ما فعله الحريري، عندما قذفه القدر إلى مقعد الحريري، فأتى بمستشاره الأول جهاد أزعور، وها هو يأتي بمستشاره الثاني محمد شطح.
ولا نعرف مدى الجهد الذي صرفه الأوّل في بيت المال، ولن نعرف بعد إلى أين يشطح بنا في هذا البيت اللبناني المسنود إلى قصب في الأشهر المقبلة. حتماً الفترة انتقالية قصيرة، لكن اللبنانيين يتحدونكم أن تصلحوا مسألة واحدة وحيدة هي الكهرباء بعدما صرفت عليها دولتكم من أضلعنا أكثر ممّا صرفت وتصرف الدول العظمى.
سؤالان إضافيان: أليس الرئيس الحريري هو الذي أرسى تشكيلات حكومات الموظفين، وكاد يحصر السلطة الحكومية بشخصه وقدراته المالية الهائلة وتطلّعاته، عاقداً مبدأ الكباش مع بعبدا وغيرها؟
ما هي المعايير التي تؤطّر مفاهيم دستورية مثل تصريف الأعمال؟ أين يبدأ هذا التصريف وأين ينتهي؟ وماذا لو بسطنا أطنان القرارات التي اتخذتها حكوماتكم ببساطة ما بعدها بساطة؟ أذكر أن جلسة وزارية تخطّت بنودها مئة وعشرين بنداً، ولا يمكن قراءتها بأقلّ من ساعة ونصف، فكيف قطعتموها في ساعتين؟ هل نفهم، على سبيل المثال، كيف عُيِّن سبعمئة أستاذ جامعي متفرغين في الجامعة اللبنانية، فقط تحقيقاً للتوازن الطائفي، فرحتم تبحثون في الزوايا ومن هم في سن التقاعد لإمرار قراركم؟
هل نسينا شكوى ميشال المر نائباً لرئيس مجلس الوزراء ومرارته لتحقيق جلسة واحدة، مرّة واحدة، لمجلس الوزراء في أثناء غياب الرئيس الأصيل، مع أنّ نائب رئيس مجلس النواب، جمع النواب لأكثر من مرّة تحت قبّة البرلمان!
* أستاذ جامعي