من لوبية ودير كيفا الجنوبيتين... إلى جسر القاضي في جبل لبنان، ثمة طريق نسلكها دون أن نتلفت إلى حكايا نلملمها من البيوت، من المسنين والأطفال، من مشاهد الدمار أو الإعمار، من الكهوف والقصور. هناك لافتة تدلك إلى اتجاه واحد... وصورة شهيد تذكرك بكل ما حفظته ذاكرة المكان
إبراهيم توتونجي
... ليس من الصعب أن تلقى أم هشام. وبوسعك أن تشمّ رائحة الغار والدراق وزهر عش البلبل، في لحظة احتضانك جسدها الضئيل، إن تمكنت فقط من تبيّن لافتة عند مفرق «خيزران» في جنوب لبنان، تشير إلى قرية «لوبية». هي ستدلك بطريقة «خاصة» على موقع البيت: «صعوداً باتجاه صورة الشهيد، المركزة عند مفترق طرق، ستتخذ اتجاه اليسار». «الشهيد» بلام التعريف لأن «لوبية» تحتضن صورة وحيدة، يعيّن الأهالي عندها بوصلة الاتجاهات، وتعيّن بها الأحزاب المتنافسة على احتضان الشهيد أو نبذه، عمقاً حقيقياً و«أرضياً» لفكرة الاختلاف وفكر التمايز. صورة الشهيد هي طلسم الجنوب، يصد عنه شر الأعادي ويغرق «سفنهم» في كل مرة!
.. ويسرد أبو هشام، الذي يفتخر بتصميمه سلّماً حلزونياً يربط طابق البيت الأرضي بالسطح، التمايز الحقيقي في حركة نباتات حديقته بموازاة ضوء الشمس. «دوار الشمس، هذا الذي عندنا، لا يذبل حين تغرب الشمس، لكنه يتوجه نحو مشرقها دوماً.. جذع الكينا، حين تقصه، تفور من صدوغه أغصان محمّلة بورق له لون النار والذهب.. زهرة الخيار الصفراء تتفتح في لحظة ألق النور عند الظهيرة، وهي لحظة الحياة المواتية لبذرة تخرج من الزهرة أو لا تفعل». هناك مزاج خاص لهذه القرية، بوسعك أن تلملمه من عتبات بيوت عند تلة في مواجهة بحر صور. مزاج كمزاج الحديقة المولّية وجهها دوماً تجاه الشمس. تلك الشمس، حين تعكس ألوانها على الواجهات الزجاجية لشارع الشيخ زايد المهيب في دبي، تسهو عينا رولا في سيارتها الفورد، كما أختها رنا في البولو الحمراء، وتذهبان إلى السلّم الحلزوني في «لوبية». لا يزال على الصبيتين أن يمضيا قليلاً من العمر في المدينة العالمية لجمع المال اللازم لبناء ما يؤدي إليه السلّم في البيت الصغير في القرية الصغيرة: غرفتا نوم بنوافذ مفتوحة على الشمس والبحر.
... على شرفتها المطلة مباشرة على حديقة الآثار الرومانية في صور، كنار في قفص. وأم رائد، التي غمرها التراب يوم نسف الطيران الإسرائيلي نصف البناية المجاورة، تلتهي بحفيدها عصام ابن السنتين الآتي أيضاًُ من دبي: «أريده أن يبقى هنا لبعض الوقت، يتربى في صور. يمسك بيد جده ويتمشيان على الكورنيش». تتجادل ابنتها معها عمّا تفضل تقديمه للضيف مع كوب الشاي «المعقود» على سخونة البخار المتصاعد من إبريق مزخرف بطبقتين. شاي على الطريقة الإيرانية، تقول الابنة. لكن لا شيء في البيت، بدءاً من عناوين الكتب في مكتبة أبي رائد، وصولاً إلى آرائه، يوحي بأن «الشاي» لا يحلو إلا بتصنيفه. «لا إيراني ولا أميركي. الشاي شاي»، ببيجامته القطنية الأنيقة، يجلس على كنبة سبعينية الطراز. لعله استفاق منزعجاً في هذا الوقت الذي «تكبس» فيه شمس صور النيام. يقول إنه يحب القاهرة ويريد زيارتها لأنها عوالم كثيرة... واسع فضاء «دير كيفا». وأبو زين، بعدما أمضى أكثر من نصف عمره متنقلاً في القواعد العسكرية الأميركية في الخليج وتركيا، حيث عمل في قسم تزويد الطائرات والمعسكرات بمؤن الغذاء، يفلت كتاب مارون عبود «حبر على ورق» من يديه، ويستقبل زائريه بفرح وحنو. حين صدر هذا الكتاب، كان لا يزال في عزّ شبابه، وأسعفه ذلك «العز» المعزز بإتقانه الإنكليزية بأن يجد وظيفة عبر السفارة الأميركية، تنقله إلى حدود صحارى الخليج، وأيضاً إلى دورات تدريبية في أميركا وألمانيا. تزوج مرتين وأنجب شباناً بنى لهم فيلا على رأس تل يشرف على حقول التبغ في «دير كيفا». البناء، الذي يسميه أهالي الضيعة بـ«القصر» لواجهته الفخمة ووجاهة مالكه الأنيقة التي تجعله أقرب إلى «خواجة من بلاد بره»، يواجه قلعة «مارون» التي بناها الصليبيون قبل 920 سنة، وصارت هيكلاً متلاشي الأطراف. ردم مهمل يأكله شجر الصبار الشائك الأخضر كما شعار «أمل» الذي خطّ على جدار القلعة عريضاً ومنفّراً. يقول تاريخ قديم إن السلطان قلاوون هدم القلعة كي لا تبقى نقطة لفلول الصليبيين مشرفة على القدس. ويقول تاريخ المكان الحديث إن أمكنة كثيرة في «دير كيفا»، منها قبو الحاجة شريفة، قصفتها طائرات آتية من صوب القدس في حرب تموز، كي لا تتحوّل إلى مراكز لتخزين سلاح «المقاومة». العجوز تستر ذقنها بإيشارب، تجلس على عتبة القبو، وتسرد أشعار فخر ومناسبات نظمها أقرباؤها احتفاءً بولادة صبيان وبنات أصبحوا شباناً وصباياً في عقدهم الثالث. لكن القبو أقدم بكثير «منذ مئات السنين كان للدير». على جدرانه صور قديمة للضيعة تُظهر فرساناً وشعراء ووجهاء ومحتفلين وأطفالاً في مدارس زمان. تقول الصبية التي تعيش اليوم في دبي: «ذات ليل، أشعل أصدقاء أتوا من بيروت هذا القبو رقصاً وغناءً وفرحاً.. ثم رحلوا مع أذان الفجر.»، بعضهم رحل خارج البلاد.
...«جسر القاضي» في جبل لبنان، تبعد مسافة خمسة أحراج صنوبر عن «كيفون»، حيث صور الشهداء معلقة أيضاً، وحيث جميلة اسمها فيروز تنام حتى الظهيرة، غير مكترثة بماء الورد الذي ينتظر بارداً في إبريقه.. سائحة خليجية تعبر فوق النهر وترفع طرف عباءتها فيتغامز الشبان في «الكافيتيريا» المشرفة على الجسر. قبل خمسمئة سنة وأكثر، وقف الأمير فخر الدين الثاني وزجر عمالاً كانوا يبنون طاحونة في المكان ذاته، أمرهم ببناء جسر لأن «شيخة من الموحّدين كانت تعبر النهر، ورفعت طرف عباءتها، فتغامز عمال الطاحونة وصفّروا». أسطورة أو تاريخ يرويه صاحب الكافيتيريا ساهياً على أنغام أغنية لراغب علامة.


موت وحياة في لحظة

ما اسم تلك اللحظة؟ حين تقبل الشمس على غيابها، ويجثم سكون ثقيل على المكان ووجوه الناس. موت اللحظة وحياتها أم الموت والحياة في لحظة؟ حين تتحوّل أم هشام إلى شجرة غار في «لوبية»، ويصبح انتظار «أبو زين» عودة أبنائه المغتربين إلى بيتهم في «دير كيفا»، انتظاراً مهجوراً ومنهزماً، حين تداعب أصابع «أبو رائد» خصلات شعر حفيده لكي يمد لسانه للكنار، حين يذوب بشير في كعب الصبية العابرة فوق «جسر القاضي»... يلف لون برتقالي دافئ غيوماً متباعدة في سماء لبنان. وتشعّ عيون الناس وعيون الأمكنة بوهج غير وهج النار.