أنسي الحاجالخطر ليس من الماضي على المستقبل بل العكس.
أكثر مَنْ أدرك ذلك هم اليهود، فتصرّفوا طويلاً، كما يشرح مونتسكيو في كتابه «الرسائل الفارسيّة»، على أساس أنهم أُمّ الديانتين الأُخريين، يشهرون أمومتهم لهما حين يضعفون ويزدرونهما وينكّلون بتاريخهما حين تدعو الحاجة. ومثلما تنظر اليهوديّة إلى المسيحيّة والإسلام كثريّتي حرب انقلبتا على الأصل واستولتا على العالم، كذلك تنظر، بشكل أو بآخر، المسيحيّة إلى الإسلام، مع فرق أنها لا تقلّ عنه عدداً وتزيده سيطرة. ويبقى على الإسلام، أحدث القدماء، انتظار غريمه ومَن سيكون. وسوف يكون، مهما طال الزمن. فلا انغلاق لباب إلاّ بوابة القبر. وحتّى هذه أمرها غير محسوم. المستقبل، بوفائه وخيانته، لا يعرف الرحمة.

ليتني أكثر العقلاء تعقّلاً كي أعرف ماذا كان سيحلّ بي. بين الساحر والمسحور أفضّل أن أكون مسحوراً. وبرّاة المهرجانات والحفلات العائليّة. وراء غلالة تَبْتسم لي بإشراق غامض، إشراق يرتع في أبّهة سكونه.
الساعة، لبنان يحتفل، إسرائيل تبكي. لبنان لا يفرح بلا ثمن. ليت الثمن يكون مما دُفع فقط. إسرائيل غالباً ما تبكي بكاء الكبرياء. عين تنوح وعين تُهيّئ الثأر. احمِ يا لبنان احتفالك. احمِ براءة نعجتك وقسوة ذئبك، فلم تعد تعرف أيّهما أنت. مَن يحميك أكثر من جنون طفولتك، أكثر من إفراط هشاشتك؟ إسرائيل بكت طويلاً والدهور ملأى بنحيبها. لم يُسْمَع نشيج لبنان حين كان يُسْلخ جلده وتُطْحَن عظامه. لا يعرف الأثير أن ينقل نواح لبنان. الجبل لا يترنّح في نظر الأثير. أمّا البحر فهو البحر فكيف يُميّز بين هديره وصراخِ صارخ؟ يُسْمَع نحيب إسرائيل لأنّها الضحيّة التي عبدت ذاتها، الجبّارة المتصاغرة، إذا طغت لا تُعيَّر وإذا انهارت انحبستِ الأنفاس. إذا انهارت فهناك هيكل سيُدمَّر. احمِ نفسكَ أيّها المطمئنّ.

السلام لجميعكم. سلامٌ لا ضجرَ فيه، كهذا الكتاب الذي عَيَّش مراهقتنا، لا شخير فيه، كهذا الفيلم الذي يُعيّش الأموات. سلامٌ بلا صراخ، رجاءً بلا صراخ. مَن شاهد فيلماً يضحك فيه الممثّلون والصوت مقطوع؟ الضحكة المقطوعة الصوت! إنّها الضحكة الكاملة. صوتها محوَّل إلى جوّاة الصدر، بلا إزعاج. أندر من الجواهر، الضحكات التي لا تُكْرَه. سلامٌ بلا مشاريع تستغلّه، بلا صخب. سلامٌ بلا رجل يضرب امرأة، بلا أمّ تضرب ولداً، بلا شرطي يمتحن أعصاب سائق، بلا نادل متّسخ اليدين، بلا هَرْقة منتصرين، بلا دلال محترفي التظرّف، بلا زمامير، بلا نشرات أخبار. بلا أخبار، بلا أديان، بلا عارضات أزياء، بلا لافتات إعلان الطريق، بلا شهداء، بلا أبطال، بلا مواطنين، بلا مواطنين، سلامٌ بناس، ناس جَمْع إنسان، جمع إنسانة، جَمْع أفراد لا يتكلّمون إلاّ بعيونهم، إلّا بأنغام أصواتهم، إلّا بحركات أجسامهم. سلامٌ من طراز القيلولة، من جنس السهرات المتلألئة بالغوى، من نوع النزهة. سلامٌ تخترقه حروب الرقص، حروب نجوم العيون، حروب النوم، حروب سلام يزايد بعضه على بعض في التغلّب على الرتابة، في تأجيل الملل، في تأخير تسديد الحساب. في تسديده دون انتباه.
كانت الخادمة تسأل: «مدام، خَلَص!؟». تقصد المشاكل. وجواب المدام شكّاك كما يُفْترض في الأكابر. لا يجزمون كالبسطاء. إنهم راشدون وأسياد، لا يَسْخون بالمعلومات كيفما كان. بقيت الخادمة على جوعها. كتمت قلقها وانصرفت من أمام الشاشة، حيث كان السيّد نصر الله وعميد الأسرى سمير القنطار يحيّيان الجماهير. مبروك لبسّام، زميلنا في «الأخبار». كان فتىً صغيراً حين ذهب شقيقه سمير. تعارفا على شاشات التلفزيون، جامع شمل العائلات. الوفاء بالوعد نقطة مهمّة عند نصر الله، يشدّد عليها في مختلف المناسبات. موقف عاطفي وأخلاقي يكاد يزول من التداول السياسي. قد ينسبه بعضهم إلى تديّنه، ولكن ماذا لو لم يكن الرجل شيخاً؟ لماذا ننسب إلى الغيب ما نستطيع أن نراه فينا، فينا وحدنا دون وصاية؟
تقف الخادمة بين صحونها ساهمة. أليست هذه هي نهاية الحرب؟ أليس تبادل الأسرى والرفات هو الطلقة الأخيرة، هو وداع السلاح؟ لكن المدام مثقّفة. شاهدت أفلاماً. سمعت أزواجها ومحلّلي القنوات. على خطوط الحقد ليس هناك طلقة أخيرة.

حينما تصبح الخادمة عجوزاً تسقط عنها صفة الخادمة. تغدو جدّة. حين تقول خادمة تعني صبيّة ومتجاوبة، وعند تواطؤ الحظ، حلوة. ومن الشروط، لكي تكون الخادمة مثيرة، لا أن تكون سهلة فحسب، بل أن تلغي من موقفها ما من شأنه تحسيس الرجل بأنّه يستغلّها، فلا تستسلم فقط لمداعباته، بل تُشعره بأنها مسرورة ودائماً على استعداد له. صفات العشيقة مع حذف وإضافة: حذف الرومنتيكيّة والتملُّك، وإضافة عنصر الجارية بلا رقص ولا غناء، جارية خام، صالحة لتمريغ الغرائز عليها كأن الدنيا عتم بعتم. اسألْ رجلاً، إذا أنكر استحسانه لهذا النوع من التمتّع طوّبه قدّيساً أو خبيثاً أو عديم الليبيدو. اسأل امرأة، لن تجد واحدة تَقْبل، لهذا تجلس أولئك الخادمات على عروشهنّ. سيّد القوم خادمهم. خادمة القوم سيّدتهم. بيت بلا خادمة حسناء، شجرة لا يزورها طير.
يحلم الكثيرون برؤية غراميات القصور. باستثناء شواذات لا يُعوّل عليها، أبشع ما في القصور أصحابها وأجمله صغيرات خادماتها مستغِلاّت مستغلّيهن. شغّل خيالك بما يجري في بيوت الفقراء، حيث الكَثْرة أرضُ العطش الخصبة.

لا نسترسل. من إلى من إلى، العصافير الجهلانة المطيورة، من إلى من إلى، تطير قبل أن تحطّ. من إلى.
إلى الكهف. ادخلْ.
رأسكَ لك. رأسك دِين على هواه، دين بلا عقاب. كالفن، أيضاً دين بلا عقاب.
اغمض عينيكَ على رأسك. استجمعْ. ماذا ترى؟
ـــ أرى وجهاً.
ـــ ماذا يفعل؟
ـــ يحتلّني.
ـــ لماذا يحتلّك؟
ـــ لأنه يَنْظر إليّ.
ـــ وأنت، ألا تنظر إليه؟
ـــ تَعْبره نظراتي كما يَعْبر النمر البريّة. تلتهمه كما يلتهم المطر الأرض.
ـــ مَن الأقوى، الوجه أم التحديق إليه؟
ـــ التحديق موجٌ والوجه صخرة. تُلْمَس الروح التي في العينين قبل أن تُلْمَس الروح التي وراء الوجه. روح النظرة أكثر عرياً. روح الوجه حجابها عجين الروح. الوجه يُعيد البصر إلى العيون العمياء.

غداً ذكرى مرور أربع سنوات على غياب ليلى، زوجتي. رحلتْ معها شجاعة الطفلة الزعيمة. يتزوّج الرجل قَدَرَه، وإن تَعطّف الدهر، يَحْمله قدره على الراحات. تركتْ وراءها قياس الفراغ. غفرتْ كلَّ شيءٍ فأين هي في غيابها لتزيل الندم؟ ليت المغادر يترك للباقين وراءه ذخراً منه يفعل ما يفعله صوته، ما تفعله حركاته، ما تفعله حرارة عينيه. حتّى لو كنتَ من النوع الذي يعرف ما يُضيّع قبل أن يضيّعه، تعرف، وتُضيّعه. لا تعرف كم كان رفيق دربك أفضل منك ونعمةً عليك إلاّ حين يذهب ولا يعود. لا تعرف كم كنتَ أحمق إلاّ حين تنفد طاقتك على التهريج. ذكرى ذكرى. اسمي ذكريات. حتّى عندما أبدأ من جديد، أنا ذكرى تبدأ من جديد.

لا تقيسي الخارج بالداخل. رأسكِ مملكة الجمال والحريّة والخارج هو الخارج، يا لفَقْره لولا هدايا رأسنا. لولا شلّالات رأسنا. أعطي الخارج نصيبه، العمل والعلاقات، واعتصمي بعده بكهف الذات. اتركي لغيركِ رَصْد العالم. اتركي العالم ينعصر من خارجه إلى داخلك.
وأنتَ أيضاً أيّها الصبي، لا تنسحب وكأنك تنسحب، فهذا انسحابٌ خادع هو في حقيقته استجماع قوى. جموع البشر الهائلة في آسيا تَنْغل في قلبك الصغير. غرفُ نوم شرقكَ الأدنى مكشوفة للقنّاصين ويحرسها خوفك. روعة أوروبا تُصلّي لها أفكاركَ لتُعْفى من الويل. أفريقيا الذبيحة الممصوصة دماؤها تَعتصر وجدانك الذي يصيح بك أنك لم تفعل شيئاً حيال الفواجع، حيال سائر ذبائح الأرض، وأنّك تغسل يديك، تكتب لتغسل يديك، تنام لتغسل يديك، تأرق لتغسل يديك، تتّهم الآخرين لتغسل يديك. ولم تعد بك نَجْحة حتّى للصلاة. ما نفع الاعتراف وقد أخفقت الحياة كلّها؟

ما أسخفها وما أعظمها، حياتنا السريعة. حياتنا البطيئة. حياتنا على كلّ حال. نيّال مَن تُشْبهه حياته! لعلّ هذا إنجازه الوحيد.
... وحيث يكون مرتاحاً. أيّها الفنّان، حاول أن لا تَقُم إلاّ بما يشبهك. لا يشبه وجهك، بل حلمك. أيّها الكاتب العزيز، الرجاء نفسه. ما يريح كيانك. التقطْ صوتَك في تحويمه، خلّصه من زوبعة الضياع، من جريمة الالتحاق. لا يكنْ لكَ إلهٌ غير إخلاصك لندائك. الرضيع في مهده، كيف ينظر إليكَ مستسلماً غير مستسلم، هكذا ينظر إليكَ صوتُك الأصلي، حلمك المقيم على رجاء تحقيقه.
هنا ترتاح. وعندما تمضي يشكرك ظلّكَ على حضورك، تتبرّك منك الكائنات الخفيّة، ويُنشد لك الرحيل أغنية النصر.