strong>• تفاصيل اليوم الأخير في فلسطين• بدء الانخراط في الحياة اليومية
• دور العائلة مختلف عن دور الفصيل

تختلف صورة سمير القنطار بتعابير وجهه القاسية التي عرفناها على مدى سنين عن صورته التي تعرّفنا إليها اليوم. وهي بلا شك تختلف عن الصورة النموذجية للثوار. هو رجل قصير القامة، باسم الوجه وودود... لكنه في المقابل يتمتع بالكاريزما والثقافة اللازمتين للبطولة

مهى زراقط
لا بد من فترة انتظار في عبيه قبل النجاح في الحصول على مقابلة مع سمير القنطار. بيت الشقيق عبد الله يغصّ بالمهنئين: وفود حزبية، شخصيات وطنية وأقارب وأصدقاء... انتظار يطول، فمع كل محاولة للاقتراب من سمير والحديث معه يدخل ضيف جديد أو وفد جديد إلى أن يبرز الاقتراح بالانسحاب والتوجه إلى منزل العائلة المحاذي.
هو المنزل الذي غادر منه سمير البيت قبل نحو 30 عاماً، لكنه تغيّر قليلاً. نسبقه إلى تحت، حيث كانت مراسلة لإحدى المحطات العربية تنتظر أيضاً. تلحق بنا شقيقته لميس التي عادت من دبي خصيصاً لاستقباله، ونجلس مستمعين إلى مقابلة تستمرّ 12 دقيقة يذكر من ضمنها أن الإسرئيليين دفنوا قطة وهي حية لأن الأسرى كانوا يتبادلون الرسائل عبرها.
ما إن تنتهي المقابلة يلتفت سمير إلى لميس: «ما بكِ؟ مريضة؟ ما به صوتكِ؟». فتجيبه أنها مصابة بالزكام... ومع انتقاله إلى كرسيّ آخر قريب من باب البيت حيث تقف، تستغلّ لميس الفرصة لتخبره شيئاً: سمير؟ مش إنت لما كنت بالبيت كان عندك قطة اسمها زوزو، هل تتذكر؟ أنا اليوم عندي قطة اسمها كريستي.

البطل «المهضوم»

«فعلاً؟ أرِني إياها» يقول، ويدخلان معاً إلى الغرفة لتكون هذه واحدة من اللحظات التي تسرقها لميس وتشعر فيها بأن شيئاً خاصاً وجد بينهما كشقيقين. فمنذ الإفراج عن القنطار إلى اليوم، لا يزال سمير بعيداً عن العائلة، لم يتعرّفوا إليه عن قرب. يتأملونه طويلاً محاولين الحكم على شخصية هذا العائد إليهم: «مهضوم» يقول ابن شقيقته. «لا تفارق الضحكة وجهه» تقول الوالدة. أما هو فيقول عن نفسه إنه «الشخص نفسه الذي غادر البيت قبل 30 عاماً، لم ولن يتغيّر».
إذا كان الأمر كذلك، فهو إذاً الشخص نفسه الذي أطلّ على اللبنانيين أول من أمس في مقابلة تلفزيونية على شاشة «المنار» والتي عرّفت الناس إليه عن قرب، بعدما عرفوه اسماً سبّب حرب تموز 2006. يضحك سمير للوصف، ولا يزعجه أن يقال عنه إنه «سبب الحرب» لأنه يعرف أن «هذا غير حقيقي. إسرائيل لم تشنّ حربها من أجل الجنديين»، ودليله إلى ذلك ما قاله الإسرائيليون أنفسهم عن الحرب. لكنه يتمنى أن يكون على مستوى الصورة الإيجابية التي ارتسمت في ذهن الكثير من اللبنانيين عنه.
هل سألت أحداً عن انطباعات الناس بعد المقابلة؟
يضحك، «طبعاً لا، هل يعقل أن أطرح سؤالاً مماثلاً، لكن أشقائي أخبروني». بسام تلقى عدداً من الاتصالات، أما لميس التي أحبّت المقابلة فنصحته بأن لا يحكي كثيراً منذ المقابلة الأولى كي لا يحرق غيرها من المقابلات، لكنه أجابني بأن لديه الكثير ليقوله. لكن هذا الكثير لا يقال لأيّ كان، هو يختار من يريد الظهور معهم والحديث إليهم «الجميع إلا وسائل الإعلام الغربية التي تروّج لروايتها هي، أنا يعنيني الرأي العام العربي وأنا مستعد لقول كلّ شيء له».
بعض مما يرغب بقوله، حاولت «الأخبار» الحصول عليه في وقت قصير سرقته من ضيوفه الذين كانوا يلقون القصائد احتفاءً بعودته. يجلس معنا عدد من أفراد العائلة الذين كانوا يستمعون إلى ما يرويه للمرة الأولى. وكانت البداية من رحلة العودة «رأيناك لحظة فك الأصفاد، ثم لحظة وصولك، ماذا حصل بينهما؟». يبدي استعداداً للإجابة، لكنه يعود ساعات أكثر إلى الوراء: «قبل يوم من الإفراج أتوا ببقية الأسرى الأربعة من سجنهم ووضعونا معاً». يضحك لدى السؤال عن ردّة فعلهم عندما رأوه وهم الذين أُسروا (بسببه) خلال حرب تموز «ألم يضربوك؟» نسأل ممازحين، فيجيب ممازحاً أيضاً: «هم سيضربونك إذا سمعوكِ تطرحين هذا السؤال. هؤلاء الشباب لا يفكرون بهذه الطريقة».
ليلة الأربعاء، نام الشباب نحو الساعة الثانية واستيقظوا فجراً حيث بدأت التحضيرات للعودة. وُضع وحيداً في سيارة، فيما بقي الشباب الأربعة معاً في سيارة أخرى، وعبرت السيارتان طريقاً خاصة كي لا يمرّ سمير في نهاريا، حيث نفذ العملية قبل 29 عاماً «لكن المنطقة التي مررنا منها تطلّ على نهاريا وتبدو منها المدينة بشكل أجمل» يقول ضاحكاً.

رحلة العودة

انتظر الأسرى في السيارتين 14 ساعة قرب الحدود «كنت خلالها مكبل اليدين والرجلين وفي وضعية قاسية». وخلال فترة الانتظار هذه كان الجندي المكلّف حراسته يدور حول السيارة ثم يتوقف أمامه ويصوّب سلاحه باتجاهه. كرّر الأمر أكثر من مرة «في البداية تجاهلته، لكني زهقت منه لاحقاً فقلت له إذا كنت تريد إطلاق النار هيّا، لكن قرّر ما تريده». لم يقل سمير هذه العبارة واثقاً «الخوف شعور طبيعي، وهم لا يتورعون عن القيام بشيء»، مثل أن يغيّروا رأيهم في اللحظات الأخيرة ويعيدوه إلى الأسر. «لهذا وضعت نفسي في أجواء تقبل كلّ ما قد يحصل، وأوصيت أصدقائي في السجن بأن لا يقوموا بترتيبات معينة إلا بعد أن يروني، لا في لبنان فحسب، بل إلى جانب شباب المقاومة»، رافضاً الإفصاح عن ماهية هذه الترتيبات.
مع بداية المرحلة الثانية من التبادل، والقاضية بتسليم الأسرى «رأيت زملائي ينزلون من السيارة وكان المفاوض عوفر ديكل يتحدث معهم. وبعد وقت لفتت مندوبة الصليب الأحمر الدولي نظره إلى عدم وجودي بينهم، فالتفت إلى سيارتي وطلب من الجندي إنزالي وفك أصفادي».
امتثل الجندي وفكّ أصفاد القدمين، لكنه تردّد في فك أصفاد اليدين «كان يحرّكهما ثم يرفع رأسه وينظر في عينيّ غاضباً، فعل ذلك أكثر من مرة إلى أن أمره ديكل مرة ثانية بفك الأصفاد ففعل، عندها قال لي ديكل: أسرع واصعد في السيارة» التي أقلّتهم إلى لبنان.
الصورة الأولى من لبنان كانت التحية وعلامة النصر التي استطاعت بعض الكاميرات التقاطها قبل أن يغيب الأسرى المحرّرون ساعتين ويطلّوا مرتدين الثياب العسكرية «لا، لا يمكنني أن أقول ماذا فعلنا خلال هاتين الساعتين». "هل تناولت الطعام مثلاً؟ لا يجيب... «هل بقيتم 14 ساعة من دون طعام؟»، «لا، خلال فترة الانتظار قدّموا لنا ساندويشات صغيرة، لكني لم آكل إلا مرة واحدة لسدّ جوعي فقط».
تغيب التفاصيل المتعلقة باحتفال الناقورة واستقبال المطار «حيث كان كلّ شيء رائعاً»... ليتوّج بمفاجأة السيد المسائية في ملعب الراية «كانت مفاجأة حقيقية لم أتوقّعها. كنت أنتظر أن أراه عبر الشاشة فقط».
كيف تصف تلك اللحظات، بدوت سعيداً؟
«إيه كنت مبسوط». «السيّد مزح معك؟». تتسع ابتسامته ويعود ليكرّر الجملة التي بات اللبنانيون يعرفونها «إيه، كان مرافقه يقول لي ابتعد قليلاً، لكن السيد ناداني وقال لي تعال يا سمير. الحرب كلها صارت من أجلك».

ثياب مدنية

بعد انتهاء الاحتفال، لم يعد سمير إلى بيته بل إلى مكان ما حيث التحقت به العائلة وتحدثوا طويلاً. في اليوم الثاني كانت الزيارة إلى ضريح الشهيد عماد مغنية. «هل صحيح أنك أنت من طلبت القيام بهذه الزيارة؟». «نعم أنا طلبتها، في السجن كنت أفكر أيّ استقبال يمكنه أن يغيظ الإسرائيليين أكثر، أن يجعلهم يهسترون، فكان اقتراح ارتداء الثياب العسكرية وزيارة الضريح الذي وافق عليه الشباب في المقاومة الإسلامية».
البزة العسكرية رافقته أول من أمس، وحلّ فيها ضيفاً على «المنار»: أردت من خلالها أن أوجه رسالة إلى العدوّ، ورسالة إلى الشعب العربي... أما وقد وصلت الرسالة فعودة إلى الثياب المدنية التي كان يرتديها أمس: جينز أزرق وتي شيرت كحلية مقلّمة. «ماشي حالون الثياب» يقول ويضحك لشقيقته سميرة التي اختارت هذه الثياب، فيستطرد: «أنا أحب اللون الأزرق».
مع إبداء الرأي بالثياب يكون سمير قد بدأ أولى خطوات انخراطه في الحياة اليومية، وكان طلبه الخاص الأول في بيته تناول البوظة «لم آكلها منذ 30 عاماً». لكن شقيقته تقول إن بسام هو من أكل البوظة، فسمير لا يحب الطعام كثيراً، بل يكاد يكون نسي المطبخ اللبناني، وهو يتعرّف إلى الكبة والفتوش للمرة الأولى «إيه مرقوا عليّ» يقول، وليس «ذقتهم» مثلاً.
هنا تذكّره سميرة بأنه لم يأكل شيئاً منذ الصباح، وهي لن تسمح له بالعودة إلى استقبال الضيوف قبل أن يتناول شيئاً. يبتسم لها ويشير إلى علاقة خاصة كانت تجمعه بسميرة التي تعرفه، عكس بسام الذي كبر بعيداً عنه، وبنى علاقته به من خلال الأسر.
«كيف كنت تتابع تحركات بسام الشاب الجامعي لتعريف اللبنانيين بك أولاً، ثم المطالبة بتحريرك؟»
تأتي الإجابة لتشرح الفارق بين دور العائلة ودور الحزب الذي ينتمي إليه المقاوم «لا شك أن العائلة مهمة جداً. قد يعتمد الإنسان على الفصائل والتنظيم الذي ينتمي إليه لإحياء قضيته، لكن دور العائلة مختلف لأنها تعكس الجانب الإنساني وهذا يلامس مشاعر الناس». وهنا يتذكر سمير، الذي كان على تواصل دائم مع بسام، أن يروي له سرّاً لم يكشف إلى اليوم ولا يزال يحيّر السجانين... «لكن ليس للنشر».
«طيب هل يمكن نشر وجود مرافقة أمنية معك؟»
هنا يلتفت سمير إلى الشاب الجالس قبالتنا، ويقول «اسأليه هو». هل يعني وجود مرافقة أمنية أنك تأخذ تهديد الإسرائيليين لك على محمل الجد «أنا لم أخف منهم عندما كنت بينهم فلن أخاف منهم الآن، لكن هذا لا يمنع اتخاذ بعض الترتيبات لأنهم لا يتورعون عن شيء». ويعلّق على الاتصالات التي قام بها إسرائيليون أمس إلى مواطنين لبنانيين بأنه «تفليس».
لم تخبرنا بعد عن المرة الأولى التي فتحت فيها الشباك واستقبلت شمس الصباح؟
يقهقه: «لم أفتح الشباك ولا مرّة بعد». ويقول تحت أشعة شمس كانت تقترب إلى المغيب «طبعاً أشعر بالحرية، فالسجان غير موجود ليقول لي افعل كذا أو كذا». حرية «تفرض» على سمير التأقلم مع أمور كثيرة بدأ يتعرّف إليها. منها مثلاً «النزلة القوية المؤدية إلى البيت، لم أتعوّد عليها بعد لأن حركتي في الزنازين كانت غالباً في غرف مسطحة».
يذكر أن القنطار سيطلّ مساء اليوم على شاشة الجزيرة، ومساء الثلاثاء سيحلّ ضيفاً على برنامج «خليك بالبيت» على المستقبل.


عودة إلى مكان العملية