لا تعرف متى تأخذه على محمل الجدّ، لكنّه في كل الأحوال انقلابي يتصادم مع السائد، يحب تروتسكي وميشال عون، ويخطّط لتعميم تجربة الـ«ميوزيكهول» على قطر ودبي والقاهرة وبلغراد واسطنبول. بعد أن ألّب عليه جمعية المصارف، يعدنا بالأعظم: عصيان مدني كوني!
أمل الأندري

في تلك الغرفة الصغيرة والمتواضعة في الكسليك، تتجاور الأضداد بتناغم غريب: صور معظمها بالأسود والأبيض: جاك بريل، ليو فيري، إديث بياف، جان لوك غودار... إلى جانب وديع الصافي وخوسيه فيرنانديز ووجوه فنية أخرى استقبلها في ملهاه الـ«ميوزيكهول». هناك أيضاً، صور عائلية على جدران الغرفة من بين إحداها يُطلّ والده الذي علّمه عشق الموسيقى، حاملاً غيتاره. وفي أخرى، يظهر هو ــــ أي «الإمبراطور» ميشال الفتريادس ــــ في صورة تجمعه مع والده اليوناني والمغنّي ديميس روسّوس. أما صورة جبران تويني فتأخذ مكانها في برواز على مكتبه.
في العاشرة والنصف تماماً، يدلف مكتبه وبيده عصا سوداء. ها نحن جالسون مع ميشال الفتريادس. على رغم القامة الطويلة والبنية القوية، تبدو في عينيه وحركاته شقاوةٌ طفولية، وهو جالس يراقب شكله في المرآة قبالته، ويحكي عن «مآثره» باستعراضية تليق بطفل كان دوماً يكره الأشياء العادية، ويحلم أن يكون بطلاً كرتونياً أو قرصاناً أو غجريّاً. لذا، تراه يحكي عن مشاريعه الكثيرة، من بناء صالات «ميوزيكهول» في 5 دول خلال سنتين... إلى حملة «لن ندفع...»، مروراً بإمبراطوريته العتيدة Nowheristan التي «ستغيّر وجع العالم مثلما فعل الإسكندر الكبير». فابن العائلة البورجوازية، يرى نفسه مزيجاً من المناضل والفنّان ورجل الأعمال الناجح... يرشف من كوب الحليب الذي أتاه للتو، مستعيداً جملة قالتها له ذات يوم حبيبةٌ فرنسية l'harmonie par le paradoxe (التناغم في المفارقة).
إذاً، هو تناغم المفارقات. لذا، لن تستغرب بعد الآن أن تراه يرتدي في جلستنا الصباحية قميصاً «أوروبي» من القرن السابع عشر، وسروالاً عثمانياً أسود، بينما يده مزدانة بأساور وحلى لكلّ منها حكاية... الفترياديس يعشق الحكايا، ويفتنه عالم الغجر. لكن تلك قصة أخرى.
فلنبدأ إذاً من البداية: سليل العائلة البورجوازية المسيحية كان غريب الأطوار منذ طفولته الباكرة، متمرّداً، منطوياً على نفسه، ينفّر محيطه بسبب طريقة ملبسه وتصرفاته التي كانت تحيّر حتى معلّميه، «لأني كنت دايماً حامل السلّم بالعرض». هكذا، سيخرج «الابن الضال» من عباءة العائلة التي كانت تخاف الشيوعيين «اللي كانو بدن يشلّحونا بيتنا، وحلفاءهم الفلسطينيين اللي بدن يشلّحونا بلدنا ويقتلونا».
في أحد الأيام من 1984، اكتشف المراهق الثائر والغاضب كتاباً مهمَلاً في مكتبة مدرسته في عينطورة... وهذا الكتاب سيقلب حياته. إنّه «رأس المال». وزّع نسخاً منه على زملائه، وكانت النتيجة أن قادته «القوات اللبنانية» إلى التحقيق، وأشبعته مهانةً... ضيمٌ سينام عليه حتى وصول ميشال عون إلى الحكم. هنا، سيكون من أوائل مؤسّسي الأنصار، وسينخرط لاحقاً في النضال المسلّح ضد الاحتلال السوري، ويستوحي أساليب نضاله من المقاومة الفرنسية، ويؤسس تنظيم MUR السري. هذا النضال استمرّ حتى 1994 عندما تعرّض لمحاولتي اغتيال، فكانت النتيجة ذهابه إلى كوبا وإقامته هناك حتى 1997.
في مكتبه الصغير، يستعيد الفتريادس هذه الذكريات ليستفيق فجأة على جملة تبرّر كل ماضيه «هيهات منّا الذلّة». ولذا، يبدو بطلنا متحمّساً لـ«حزب الله»، وهو كان من أوائل مَن حيّوا نضاله عام 1992. فـ«مقاومتنا كانت ضد احتلالين: نحن ضدّ السوريين وهم ضدّ الإسرائيليّين».
والعالم يعرف هذا الوجه تحديداً للصبي الشقي المتعدد الوجوه: المناضل السياسي. بينما يتوارى الفتريادس الذي عرفه لبنان فناناً ومنتجاً وصاحب شركة «الفترايدس بروداكشن»، والذي كان من أوائل مَن دمجوا موسيقى الشعوب بالتراث العربي... ففي أواخر التسعينيات، جمع وديع الصافي وعازف الغيتار الغجري الإسباني خوسيه فرنانديز... ثم فرقة من الغجر اليوغوسلاف مع المغنّي طوني حنّا!
وللغجر قصّة طويلة مع الفتريادس. كأنّه يتماهى معهم عاشقاً للترحال بلا جواز سفر. أقام معهم فترات طويلة: من غجر صربيا إلى غجر العبدة أو صيدا أو سوريا. وإمبراطوريته NOWHERESTAN (إمبراطوريّة اللامكان في أحد تفسيراتها الممكنة)، هي موطن الغجر في المقام الأول. فماذا عن تلك الإمبراطورية العتيدة؟ «إنّها مشروع فلسفي سياسي اقتصادي يقدم حلولاً لمشاكل العالم». يستقيم الفتريادس في جلسته، ويستفيض في الشرح عن الثورة الكونيّة «المستوحاة» من ماركس والعصيان الذي سيقوم به «النوويرستانيون» لاستلام السلطة في العالم. «بعدها، سيتولّى الحكم مجلس شيوخ من اللامعين في مختلف المجالات. وأنا الإمبراطور الأول والأخير لكن من دون سلطة... يعني تسلاية». ثم يقف فجأة متوجّهاً إلى الكومبيوتر ليريني المنتسبين إلى إمبراطوريته. هنا، تصيبكَ الحيرة: المشروع جدّي إذاً! لكنّ ألا تقلّل خفة الفتريادس، من جدّية طرحه؟ يبتسم ويجيب بسرعة: «على الإمبراطور أن يتمتّع بميزتين أساسيتين: أن يكون حاسماً ومهرّجاً معاً».
حين يتحدّث هذا الشاب الثلاثيني، لا يمكنك إلا أنّ تستشف نوعاً من «الاستعراضية» لديه. يوم أطلق «حملة لن ندفع ديون لبنان الجائرة»، اتّهمته جمعيّة المصارف اللبنانية بـ«الجنون». فكيف يدعو هذا «المخرّب» إلى عدم تسديد الديون لأنّ «السلطة لا تتمتع بالشرعية الشعبية». لعلّ جملةً واحدة قد تلخّص شخصيته الملأى بالمفارقات: إنّه مخرّب وعابث من الطراز الأوّل. آه، نسينا أنّه دعا في كتابه «أشعار وأفكار وأغنيات وقصص وترّهات أخرى» إلى أن «نكون سورياليين ولا نطلب شيئاً»... وذلك ردّاً على انهيار الأحلام بعد 40 سنة على الثورة الطلابية عام 1968 وشعار «كن واقعياً، اطلب المستحيل». على أي حال، الكتاب مُنع من الأسواق اللبنانية لدى صدوره عام 2000 لأنّ الفتريادس عاد مجدداً إلى لعبته الأثيرة: التخريب والتهريج، في تناول الثالوث المحرّم: الجنس والدين والسياسة!
اليوم، يقسّم وقته بين عمله وعائلته الصغيرة ومشاريعه الكثيرة... ومعاركه أيضاً! وحين تسأله مواربةً عن طموحات سياسية محتملة، يسخر منك «أنا إمبراطور نووريستان، كيف بدِّك ياني إرضى بمقعد نيابي»!
وبعد أن يودّعك صافقاً الباب وراءه، يصيبكَ الذهول وأنتَ تنتظر المصعد. تتذكّر كلامه عن الحرية والمساواة بين البشر، والعدالة في توزيع الموارد، واللامركزية في الحكم. ثم تستعيد جملة لأوسكار وايلد قالها خلال الحديث: «التطوّر هو تحقيق لليوتوبيا»... فتصيبك الحيرة مجدداً: تراه مسيحاً دجّالاً أم دون كيشوت يصارع طواحين الهواء؟


5 تواريخ

22 حزيران (يونيو) 1970
الولادة في بيروت
1999
أسّس مهرجان بيبلوس الدولي
2003
أطلق ملهى الـ«ميوزيكهول»، وشركته «الفتريادس ريكوردز» التي تملك التمثيل الحصري لشركة وارنر العالمية وقد أنتجت 15 ألبوماً.
2005
شارك في «ثورة الأرز» ونظّم احتفالاً كبيراً بعودة ميشال عون من المنفى.
2006
شارك في تأسيس منظمة مشاهير العالم العربي الثقافية «وياك»، وهي منظمة غير حكومية تُعنى بمدّ الجسور مع المجتمعات العربية المحرومة