من تبنين إلى بيروت والعمل السياسي. ومن النضال إلى التجارة في أفريقيا فالولايات المتحدة فأفريقيا ثم بيروت. رحلة عمر اجتازتها وردة فواز، التي لم تفقدها صلابة الشخصية أنوثتها الدافئة، قبل أن تحط رحالها في شارع المقدسي وتتفرّغ لإدارة مطعم «وليمة»
رنا حايك

ولدت وردة فواز لعائلة كبيرة تضم 11 ولداً. عاشت في تبنين طفولة مختصرة قطعها، ما إن بلغت الرابعة عشرة من عمرها، زواج انتقلت على أثره إلى بيروت، حيث رزقت سريعاً بطفلين. ترفض وردة الحديث عن هذه المرحلة من حياتها التي انتهت بترمّلها عندما بلغت التاسعة والعشرين من عمرها.
بدأت الحياة باكراً في تحدّي صلابة تلك الصبية التي لم تنقطع بها السّبل عند أي من المحكّات التي مرّت بها. رفضت أن يكون لأحد «فضلاً على ولدَيْها»، فتوجّب عليها العمل لإعالتهما رغم افتقارها للمؤهّل العلمي. تداخل في هذه اللحظة العامل المادي مع العامل النضالي الذي كانت امتداداته قد مسّتها منذ مدة بحكم وعيها السياسي وعلاقتها الوطيدة بالمنخرطين في العمل الحزبي. أودعت الولدين مدرسة داخلية وتفرّغت تماماً للعمل السياسي في صفوف إحدى فصائل الحركة الوطنية، متحدّية أهلها الذين قاطعوها بسبب ذلك.
تتحفّظ وردة بشدة على تفاصيل نشاطها السياسي. تذكر فقط كم صقلتها هذه التجربة النضالية: وفّرت لها الحركة المشاركة في دورات لتعلّم اللغات الأجنبية، وقرأت كتباً كان أكثرها تعقيداً كما تذكر كتاب لينين «ما العمل؟». عملها وفّر لها السّند المادي والآخر المعنوي، فقد كانت محاطة بزملاء وأصدقاء حميمين ودافئين ومؤمنين بقضيتهم.
ورثت وردة صلابة الشخصية ودفء المعشر عن والدها، أول رئيس بلدية لقرية تبنين بعد استقلال 43، وتكفّلت ظروف حياتها بالباقي. فكما أسهمت المرحلة الذهبية للنضال السياسي في تكريس جرأة الصبية وشجاعتها، أسهم أفول نجم النضال ومواجهة الإحباطات التي نتجت منه في ترسيخ إصرارها على البدء مجدداً، من الصفر، في حياة جديدة. كان الولدان قد كبرا وتزوّجا، فبدأت وردة أسرة جديدة في القارة السمراء هذه المرة. رزقت من زواجها الثاني بتاجر الأقمشة علي لقمجي ببنت وحيدة. وبعد مرحلة النضال الشعبوي اليساري بين الجماهير، وجدت وردة نفسها في عالم الماس وأثرياء أفريقيا، فكانت هذه النقلة السريعة بمثابة صدمة ثقافية لم تعجز عن احتوائها بعد فترة.
عملت في بيع القماش، لكن العمل لم ينجح. فقرّرت الاستفادة من موهبة لطالما أثنى عليها أصدقاؤها من منظمة العمل الشيوعي الذين كانوا يتسرّبون من الاجتماع التنظيمي كلّ نهار ثلاثاء ليتناولوا طعام الغداء الشهي في منزلها. أصبحت تطبخ في منزلها وتبيع مأكولاتها للمغتربين اللبنانيين في أبيدجان. إلا أن الأحوال ساءت بعد فترة بين الجالية اللبنانية وأبناء البلد الأفريقي، فأبعدتها التوترات إلى الولايات المتحدة، حيث قضت ثمانية أشهر فقط لم تقو خلالها على التأقلم، فأعادها إحساسها بالغربة إلى زائير حيث كان زوجها قد سبقها للبحث عن عمل.
وردة لا تيأس، ولا تستسلم، وتعرف كيف تدير، بذكاء، علاقاتها العامة. في زائير نبشت عنوان إحدى العائلات التي هاجرت من قريتها، قصدت أفرادها فدعموها وأمّنوا لهما هي وزوجها عملاً في الاستيراد والتصدير، وشجعوها على معاودة عملها في إعداد الطعام، على أن يؤمنوا لها الزبائن من معاملاتهم مع تجار الماس. كانت تلك إحدى مراحل حياتها «الماسية» التي لم تدم طويلاً، فقد كانت الثورة على الوافدين «البيض»، أي لبنانيي أفريقيا، قد بدأت لتستمر طويلاً. فرض ذلك على وردة هروباً جديداً، هذه المرة، هو الأخير. فبعد الرحلة الطويلة العابرة للقارات وللطبقات، كان الاستقرار النهائي في بيروت عام 1991. لعبت خلال السنوات الأربع الأولى في الوقت الضائع، فزاولت تجارة متواضعة في بيع الأقمشة والعبايات، إلى أن اهتدت إلى الفكرة التي ستكون مسك الختام.
ففي سنة 1995، كان الأصدقاء القدامى لوردة قد عادوا إلى لبنان. زملاء النضال وصديقات أيام الشباب. قررت مع صديقتين، إحداهما تملك مبنى في شارع المقدسي، افتتاح مطعم تستثمر فيه موهبتها في إعداد الطعام وصداقاتها التي راكمتها في مختلف مراحل حياتها وحسن ضيافتها واللياقة الاجتماعية التي تبدع في مزجها مع الحزم والشدة. احتفت بيروت كثيراً بفكرة اجتماع ثلاث صديقات من المناضلات القدامى على افتتاح مشروع تجاري معاً، وسرعان ما استقطب مطعم «وليمة وردة» شرائح متنوعة من الزبائن، ولا يزال حتى الآن بعد أن فرط عقد الشراكة وبقيت وردة المالكة والمديرة الوحيدة.
يختصر هذا المكان حياة وردة الحافلة. يقصده السائح الأجنبي ليتذوق الطعام اللبناني التقليدي، ويقصده عزّاب العاصمة لتناول الطبخ البيتي. يقصده الصحافيون والمثقفون واليساريون من أصدقاء مرحلة النضال في حياة وردة، كما يقصده النواب والوزراء والسفراء الأجانب. «ربّيت هالمحل على إيدي متل طفل صغير»، تقول.
لا يكمن سرّ النجاح في طعم الأكل الشهي فقط، بل بمناخ الراحة والحميمية الذي تحرص وردة على إشاعته في أرجائه. فهي تتقن الحفاظ على مسافة دافئة مع زبائنها، ومع الموظفين لديها ومع التجار الذين تتعامل معهم. المرأة الحديدية التي تحظى باحترام الجميع ومحبتهم، تعامل محيطها برقة يبادلها إياها. تحتفظ بأنوثتها ويشع وجهها نضارة رغم تقدم سنها الذي ترفض التصريح به. تعتمد على بناء علاقة مباشرة مع زبائنها و«تحيّد حالتها النفسية مهما كانت سيئة حين تتعاطى معهم». فهي لا تؤمّن الطعام فقط بل الموسيقى والمناخ المريح، لذلك تحرص على انتقاء زبائنها و«لا يعنيها المكسب المادي بقدر ما تهمها سمعة المطعم».
تضافرت الخبرات الحياتية الغنية التي راكمتها تلك السيدة لتنتج شخصية فذّة في علاقتها بصورتها الخاصة وبأبنائها وبالرجل في حياتها. تحب جميع من يحيطون بها، لكنها لا تعتمد سوى على نفسها، وقد ربّت أبناءها على اعتماد هذا الأسلوب في الحياة. نسوية بالفطرة وبحكم الظروف الحياتية القاسية التي مرّت بها، ولأن نسويتها فطرية، ظلت وردة أنثى تقليدية ترفض، رغم شدة الإلحاح، البوح بسنّها الحقيقية، وحافظت على خصوصية المرأة الشرقية التي فيها.
وردة، البارعة في مجانسة الثنائيات المتناقضة وفي احتواء أكثر من حياة واحدة ومواءمتها مع بعضها، لم تتعب بعد، فهي تبحث هذه الأيام عن مقرّ جديد للمطعم في شارع الحمراء، لأن البناية التي يحتل فيها الطابق الأرضي ستُهدم مع نهاية عام 2008.


يوم فلسطين في «وليمة»

تساهم وردة منذ أربع سنوات بانتظام في إقامة يوم فلسطيني كل أول خميس من الشهر في مطعمها، في سبيل «خدمة القضية»، إذ تتيح لتجمّع أربع سيدات تنفيذ مشروعهن «من عائلات لبنان لعائلات فلسطين» وجمع التبرعات لأسر فلسطينية، وتأمين التكفل بهم من جانب أفراد لبنانيين خلال مآدب غداء تقام في المطعم، وتتلقى وردة في مقابل تنظيمها لها مبالغ رمزية.